مال وأعمال

فهم العلاقة بين المال ودماغ الإنسان .. مفتاح التغلب على تزييف العملات

التنمية برس: خاص
كلايف كوكسون من نيويورك: ثمار الاكتشاف العلمي هي الأساس الذي يستند إليه قسم كبير من الوجود الحديث، من أجهزة الكمبيوتر التي تُعالج معلومات بحجم آلاف الجيجا بايت، إلى رسم خريطة الحمض النووي التي تستطيع تشخيص الأمراض. لكن ما الأفكار الكبيرة التي ستُشكل حياتنا غدا؟
استضفنا ستة من كبار العلماء في العالم، الذين يعملون في بعض من مجالات البحث الأكثر إثارة، للكتابة لمجلة «فاينانشيال تايمز» الأسبوعية. وكما ستكتشفون خلال الشهرين المُقبلين، لديهم قدرة رائعة على توصيل أفكارهم، فضلا عن كونهم ممارسين رائعين للعلوم.
في وسائل الإعلام، أصوات العلماء الأفراد عادة ما تنتقل من خلال الصحافيين، من أمثالي. لكننا نعرف، في الوقت الذي يتقدّم فيه الفهم العلمي بمعدلات غير مسبوقة، أن الناس يحبون أيضا السماع مباشرة من الباحثين الذين يفتحون آفاقا جديدة في تخصصاتهم. مهرجانات العلوم لم تحظ بمثل هذه الشعبية من قبل، في حين أن العلماء هم من بين أكبر مصادر الجذب في المهرجانات الأدبية.
جميع المؤلفين الستة هم أساتذة في مجالات اختصاصهم. لم نُقدّم لهم موجزا محددا - مجرد دعوة مفتوحة للكتابة عن مجال تخصصهم. بعضهم يأخذ نظرة شخصية تماما، وآخرون يمنحوننا نظرة أوسع وأكثر استقلالا. عدد من المساهمين لدينا هم شخصيات معروفة في مجال تبسيط العلوم لغير المختصين، وآخرون أقل شهرة بالنسبة للقرّاء غير المتخصصين. لكن كلا منهم لديه صوت مباشر ومميز وقدرة على إيصال الأفكار التي يمكن أن تحوّل حياتنا وحياة الأجيال المستقبلية.
النجاح العالمي لكتاب كارلو روليلي الصغير الحجم بعنوان «سبعة دروس موجزة عن الفيزياء»، الذي ظهر أول مرة على شكل سلسلة مقالات في الصحيفة الإيطالية «إيل سول 24 أور» Il Sole 24 Ore، وشعبية سلاسل الكتب مثل «مُقدّمات قصيرة جدا» (التي تنشرها مطبعة جامعة أكسفورد) وسلسلة «ليدبيرد بأقلام المختصين» (التي تنشرها دار بنجوين)، يُظهر شهية الناس للاطلاع على كتب العرض الذكي، لكن الموجز للأفكار العلمية المعقدة. لمنح سلسلتنا الهوية البصرية الخاصة بها، كلفنا المصوّر الأمريكي، كيلب تشارلاند، بتقديم تفسير خيالي لمقالة كل عالِم.
في المقالة أدناه، عالِم الأعصاب، ديفيد إيجلمان، من جامعة ستانفورد – ربما هو معروف أكثر بسبب سلسلته التلفزيونية المؤلفة من ست حلقات بعنوان «الدماغ» (التي تم بثها في عام 2015) - يفتتح سلسلتنا. في هذا المقال يتحدث إيجلمان عن جزء غير متوقع من أبحاث الدماغ بتكليف من البنك المركزي الأوروبي: كيف نجعل تزوير أوراق البنكنوت أصعب ما يمكن. حلول إيجلمان التي يكتب عنها للمرة الأولى هنا، مُثيرة للدهشة.
أعظم سر في علم الأحياء، إلى جانب عمل الدماغ، هو الشيخوخة. لم يكتشف أحد معلومات عن الجينات التي تُسيطر على الشيخوخة في الحيوانات أكثر مما فعلت سينثيا كينيون، من جامعة كاليفورنيا، سان فرانسيسكو. فهي تصف كيف يتم تطبيق هذه الاكتشافات لإضافة “أعوام شابة، خالية من الأمراض” لحياة الإنسان، من بين أمور أخرى، شركة كاليكو الناشئة التي تعمل فيها رئيسة لقسم أبحاث الشيخوخة.
شون كارول، عالِم الكونيات في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، هو عالِم مؤلف آخر ناجح، كان كتابه “الصورة الكبيرة” واحدا من أبرز الكتب العلمية بالنسبة لي في عام 2016. مقالته ستُخبرنا عن الأمور التي ربما حدثت في “الانفجار الكبير” - أو حتى قبله. هل يُمكن أن يكون الكون “يتأرجح” بين الانفجارات والانهيارات؟
عالِم الفيزياء الآخر في هذه السلسلة، جيرمي أوبراين، أسترالي يُدير واحدا من أبرز مراكز التكنولوجيا الكمية في العالم، في جامعة بريستول. وسيبين لنا كيفية استغلال العالم الغريب للآلات الكمية لتطوير أجهزة كمبيوتر فائقة القوة. الطريقة التي تربط بها مقالته الحوسبة الكمية بحل مشاكل العالم الحقيقية، مثلا في الزراعة أو البيئة، هي فعلا مثيرة للدهشة.
هناك نهج مختلف تماما للحوسبة يأتي من ديميس هاسابيس، مُعلّم الذكاء الاصطناعي الذي يقف وراء “ديب مايند”، الشركة الناشئة القائمة في لندن - المعروفة بإنتاج جهاز ذكاء اصطناعي تغلّب على البطل البشري في لعبة جو، لعبة الرقعة الأكثر تعقيدا في العالم. ويعتقد أن الذكاء الاصطناعي يستطيع تسخير الفيزياء وعِلم الأعصاب لتوليد فهم جديد للعالم.
بعد حياة مهنية قضتها في طليعة أبحاث الأرصاد الجوية، جوليا سْلينجو تقاعدت للتو من منصب كبيرة العلماء في مكتب الأرصاد الجوية في المملكة المتحدة. لا شيء يؤثر في الحياة اليومية للناس أكثر من الطقس، وهي تعرف كيف يُمكن توقع الأحداث المحلية ذات التأثير الأكبر – العواصف والثلج والضباب - بدقة على شبكة نطاقها كيلو متر. سرعان ما سيكون بالإمكان التنبؤ بتغير المناخ على النطاق المحلي نفسه.
قد تعتقدون أن المجالات العلمية الأخرى تتحرك بسرعة المجالات الستة نفسها التي اخترناها، ومع القدر نفسه من الإمكانات لتغيير العالم وفهمنا لها. علم الجينوم وتعديل الحمض النووي يُمكّن الباحثين من فهم ما تفعله أي جينة في أي كائن حي، من البكتيريا والنباتات إلى الإنسان، ومن ثم تغييرها لأغراض لا تُعد ولا تُحصى بما في ذلك علاج الأمراض وإنتاج محاصيل أفضل.
الإلكترونيات البيولوجية تستفيد من الإشارات الكهربائية في الجسم؛ والتطبيقات تراوح من استخدام أفكار الإنسان للسيطرة على الروبوتات إلى التلاعب بالأعصاب خارج الدماغ لمعالجة الأمراض المزمنة. في الوقت نفسه، يكتشف علماء الفلك آلاف الكواكب خارج نظامنا الشمسي، بما في ذلك عوالم تشبه الأرض حيث يمكن أن تكون الظروف مناسبة للحياة.
ينتظرنا الكثير في السلسلة التي تقدمها هذه المجموعة من العلماء الذين هم في طليعة البحوث الأكثر إثارة في العالم. وفيما يلي الجزء الأول مع البروفيسور ديفيد إيجلمان*
في غارة قبل الفجر في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، اقتحم عملاء الخدمة السرية في الولايات المتحدة ومعهم 1500 ضابط شرطة من بيرو عددا من المنازل والمباني في ليما، عاصمة بيرو. كانت الغارة تتويجا لتحقيق استمر لفترة طويلة يهدف إلى إيقاف تدفق الدولارات المزورة من البلاد. “عملية الغروب” أغلقت ست معامل مليئة بالمطابع واللوحات وصور النيجاتيف، وأكوام من الأوراق المزيفة من فئة 100 دولار. في الأعوام القليلة الماضية، تمت مصادرة أوراق نقدية مزيفة بقيمة تزيد على 75 مليون دولار في بيرو - واحد من كثير من البلدان التي يحاول فيها المحتالون تزوير الدولار.
من الصعب تقدير حجم الأوراق النقدية المزيفة التي تمر من خلال الاقتصاد الأمريكي دون أن يرتاب فيها أحد: تدعي السلطات أنها تضبط غالبية الأوراق المالية المزيفة المُنتجة، والمزوّرون يزعمون العكس.
لكن التزييف مشكلة تواجه كل لاعب رئيس في لعبة العملة. تضبط روسيا عملة مزيفة في حدود 200 مليون روبل سنويا، والصين تضبط 500 مليون يوان مزيفا. وأنهت الهند أخيرا التعامل بأوراقها النقدية فئة 500 روبية وألف روبية، جزئيا لمواجهة قلق متصاعد بشأن التزوير. في فنزويلا التضخم الهائل جعل من المفيد بالنسبة للمحتالين تبييض الورقة النقدية فئة عشرة بوليفار واستخدام الورقة لتزوير الأوراق النقدية بعملات أخرى. ويوزع المزوّرون الأوراق النقدية المزورة في الشوارع والساحات في جميع أنحاء العالم.
قد تتساءلون كيف أصبحت مهتما بالتزوير، بالنظر إلى أنني عالِم أعصاب. سأروي لكم كيف حدث ذلك: قبل أعوام كان لديّ عرض في مؤتمر علوم الدماغ، بعده اقترب مني رجل مهذّب لطيف وسمين. بعد أن قطعنا شوطا في الحديث، علمت أنه يعمل لدى البنك المركزي الأوروبي. فوجئت بذلك. ماذا يفعل شخص كهذا في مؤتمر مخصص لعلم الأعصاب؟
مهمته، كما تبيّن، كانت تحديد حل جديد لمشكلة التزوير في أوروبا. يضبط الاتحاد الأوروبي مئات الآلاف من أوراق اليورو المزورة كل عام، معظمها أوراق فئة 20 يورو و50 يورو. لحل هذه المشكلة، أراد البنك الاستعانة بعلم الدماغ.
هذا ليس غريبا كما يبدو في البداية. في الوقت الذي تطوّر فيه فهمنا للدماغ خلال العقود الأخيرة، أعطانا علم الأعصاب معلومات قيّمة في مجالات عديدة - من التعليم المبكر إلى سلوك المستهلكين وسياسة الحكومة. علم الدماغ الحديث لديه تطبيقات واسعة النطاق، لا سيما عندما يتعلّق الأمر بفهم الطرق التي تكون فيها تصوراتنا عن العالم غير دقيقة.
في حالة الأوراق النقدية، الأسئلة كانت مباشرة. ما هي التفاصيل التي نُلاحظها ولا نُلاحظها، ولماذا؟ ما الميزات التي يُمكن تصميمها بشكل أفضل لتكون متوافقة مع الدماغ؟ من بين جميع التدابير التي تتخذها الحكومة لمكافحة التزوير، أيّها يعمل؟، وكيف يُمكن للحكومة أن تبذل جهودها بشكل أفضل؟
في قلب المشكلة كانت حقيقة أن الحكومات تُنفق الملايين لاستحداث ميزات الأمان. ربما لاحظتم الحبر الذي يتغير لونه (مثلاً، من أخضر إلى أزرق) عندما تميل الورقة النقدية إلى زوايا مختلفة قليلا. عندما تضع الورقة أمام الضوء تلاحظ علامة مائية تكون غير مرئية خلافا لذلك: ليست مطبوعة على الواجهة الأمامية أو الخلفية، لكن على الطبقة الوسطى.
هناك مزايا شائعة أخرى تشمل الصور المجسمة، وشريطا ملونا رأسيا يعرض قيمة الورقة، والألياف غير المرئية التي تتحوّل إلى ملونة تحت ضوء الأشعة فوق البنفسجية. جزء من العملة هو مجموعة صاخبة من الوسائل الأمنية.
المشكلة هي أن لا أحد ينتبه لها. الناس الذين يتداولون الأوراق النقدية في المعاملات اليومية لا يتوقفون عادة لفحصها بعناية. الحبر الخاص، والعلامة المائية، والخط، والألياف، والصور المجسمة: هذه الميزات الأمنية المُكلفة هي جهد ضائع. الأوراق النقدية المزورة يغلب عليها أن تظهر فقط في المصارف، لأن الأوراق النقدية الحقيقية لديها رمز مقروء آليا.

جهود «المركزي الأوروبي»

مشكلة عدم الانتباه هذه قادت البنك المركزي الأوروبي إلى البحث في سؤال بسيط: هل يُمكن تصميم الأوراق النقدية بطريقة أفضل حتى يكون الشخص العادي أكثر عرضة لملاحظة وجود شيء خاطئ؟
بناء على دعوة من الرجل الذي قابلته في المؤتمر، تم التعاقد معي لمعرفة جواب هذا السؤال - وسافرت بالطائرة إلى المقر الرئيس للبنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت.
أُدخِلت من خلال باب محمي بشارة، ثم آخر، ثم آخر. في غرفة داخلية صغيرة، عُرضت عليّ أكوام مختلفة من الأموال المزيفة. نُظّمت الأموال حسب أصلها المفترض: هذه الكومة من إسطنبول، وهذه من بلفاست وهلمجرا. كل كومة كانت تتسم ببعض الميزات المعبرة التي سمحت بكشف التزوير. بعض هذه الأوراق المزورة كانت جيدة؛ التزوير كان واضحاً فقط تحت ضوء الأشعة فوق البنفسجية. لكن معظمها لم يكُن خفيا بقدر ما يتوقع المرء. في جميعها تقريبا، الحبر الذي يفترض أن يتغير لونه لم يتغير لونه. وفي أخرى العلامة المائية كانت مرسومة باليد وبشكل ضعيف. في أحد الأكوام الصور المجسمة الفضية تم تقليدها على شكل قطعة مُلصقة من مادة لامعة من ختم علبة لأقراص “سي دي”. كثير من الأوراق النقدية في الأساس لم تكُن لديها ميزات أمنية على الإطلاق.
ومع ذلك، لم يُلاحظ أي أحد تقريبا من الجمهور هذه الأوراق المزورة. كان المستهلكون يضعون الأوراق النقدية في جيوبهم، ثم يعطونها لغيرهم في التعاملات النقدية. لماذا؟ لأننا مستخدمين غير منتبهين بشكل مدهش.
حاول البنك المركزي الأوروبي معالجة هذه المشكلة من خلال استضافة حملات توعية عامة، كان يشجع خلالها الناس على التوقف وإمعان النظر فيما في أيديهم، لكن هذا النهج فشل. هذا الأمر كان يتطلب جهدا والناس لم يكن لديهم استعداد لبذل الجهد اللازم. تهتم الحكومات بشكل هائل بالميزات الأمنية، أما الجماهير فلا تفعل.
لذلك أراد البنك اتّخاذ مسار مختلف: معرفة ما يُلاحظه النظام البصري البشري فعلا ولماذا. لا جدوى من إنفاق مبالغ كبيرة على الميزات الأمنية التي لا يُلاحظها سوى خبراء الأمن.
هذه كانت بداية علاقتي الطويلة مع البنك المركزي الأوروبي. لأسباب قانونية، لم يتمكّنوا من تصنيع، أو إرسال الأوراق النقدية المزيفة لي، لذلك قراري الأول في العمل كان معرفة كيفية إنتاج أوراق بديلة بنفسي. حصلت على الموافقة من جامعتي على هذه الدراسة غير العادية، وجلست مع طلابي للعمل.
كما تبين، ليس من الصعب صناعة ورقة مزيفة مرتجلة. في البداية عليك أن تجري مسحا ضوئيا لكلا جانبي الورقة النقدية بدقة عالية. بعد ذلك استخدم طابعة ملونة، ثم اطبع أحد الجانبين، ومن ثم قم بصف الأوراق بعناية، واطبع الجانب الآخر. بعد قص الحواف حسب الحجم ستحصل على ورقة مزيفة تبدو جيدة بشكل معقول.
لكن هذا لا يبدو صحيحا تماما - لذلك جرّبنا بأوراق مختلفة ذات جودة عالية. حاولنا تجعيد الأوراق النقدية. غمسنا بعضها في الماء، والحليب، والصودا وغيرها من المواد الأخرى. جعلناها بشكل عام تبدو محبوبة تماما.
أوراقنا النقدية لم يكُن لديها ميزات أمنية، لكن هذا ليس ما كنّا ندرسه. كنا نحاول معرفة التفاصيل التي يمكن أن يلاحظها الناس إذا غيّرناها. حصلت على الإلهام من تجربة بسيطة أدارها عالما النفس، ريموند نيكرسون ومارلين آدمز، في عام 1979. عرضا على المشاركين 15 رسما مختلفا للبنس الأمريكي. أحدها كان البنس الفعلي، بينما الأخرى كانت نُسخا تم التلاعب بها، بحيث كان التاريخ في المكان الخاطئ، أو تم تغيير الشعار (مثلا، “الولايات المتحدة الأمريكية” بدلا من “نحن نثق بالله”).
أقل من نصف المشاركين تمكّنوا من تحديد البنس الصحيح. على الرغم من أن المشاركين يتعاملون مع هذه القطع النقدية كل يوم تقريبا في حياتهم، إلا أنهم لم ينتبهوا للطريقة التي كانوا يعتقدون أنهم يتعاملون بها. التجربة لا تُترجم إلى خبرة.
لم لا؟ هذا لأننا لا نرى سوى ما ننتبه إليه من قُرب. لنتخيل إلقاء لمحة على رجل وامرأة يتنزهان في إحدى الحدائق. كل ما سنراه فعلا هو شيء مثل رجل وامرأة وطعام.
مع مرور الوقت، عندما تنظر في المشهد بأنظمة الانتباه الموجودة لديك، تبدأ في استيعاب المزيد من التفاصيل: أطباق حساء، بطانية ذات مربعات، تلال في الخلفية. ومع مرور المزيد من الوقت: تلاحظ مثلا أنه يستخدم ملعقة منحنية قليلا، وهي ترتدي قلادة فضية، الأشجار المحيطة هي أشجار النبق.
نحن نُدخِل المزيد من التفاصيل في المشهد فقط إذا أولينا اهتماما أكثر وسألنا المزيد من الأسئلة. وهذه هي الحال مع جميع حواسنا. هل تحس بحذائك الذي تلبسه على قدمك اليُسرى في الوقت الحالي؟ ما هو موقع لسانك في فمك؟ بمجرد أن تُجيب على هذه الأسئلة، تُصبح مُدركا للجواب. لكنك لم تعرف إلا عندما استفسرت.
لذلك حاسة البصر لدينا لا تُشبه الكاميرا التي تلتقط المشهد بالكامل. بدلا من ذلك، لا نرى سوى التفاصيل التي تسعى إليها أدمغتنا. وهذه هي المشكلة مع الأوراق النقدية. ربما نُلقي نظرة على إحدى الأوراق للتحقق من أنها تُطابق الأنموذج العام الذي نتوقعه، لكننا لا نُدقق في التفاصيل. لهذا السبب لم تنجح حملة البنك المركزي الأوروبي للتوقف وإمعان النظر في المال: نحن لا نهتم بالأشياء التي تُناسب افتراضاتنا بما فيه الكفاية. ونعتقد أننا نعرف بالفعل الورقة الموجودة في أيدينا.
مهمتي كانت معرفة أي العناصر من الأوراق النقدية التي هي ملحوظة، وأيّها التي ليست ملحوظة، وتقديم التوصيات بشأن الخطوات التالية. أخضعنا المشاركين لعدة اختبارات، بالطلب منهم النظر إلى الورقة النقدية (أ)، ومن ثم إلى الورقة النقدية (ب) وإعلامنا بالفرق. كان أداء الناس في ذلك رديئا بشكل صاعق. أجرى مختبري دراسات لأكثر من عام، وفي النهاية أصبح واضحا لي ما ينبغي فعله.

في الاتجاه الصحيح

في عرضي الأخير للبنك، قدّمت أدلة على أن العلامة المائية على اليورو ينبغي أن تكون وجها وليس مبنى. لماذا؟ لأن الدماغ البشري متخصص بشكل هائل في الوجوه، لكن لديه القليل من الإمكانات العصبية المُكرّسة للمباني الكبيرة. وبما أن العلامات المائية المزورة تكون مرسومة باليد بشكل عام، فإن كشف الوجه غير المثالي أسهل بكثير من المبنى غير المثالي.
مع الأسف، واجه البنك صعوبة في التنفيذ. كيف يُمكنهم جعل كل البلدان المختلفة توافق على وجه شخص واحد؟ ما هي الجنسية التي يُمكنهم اختيارها؟ اختاروا أخيرا الأميرة الأسطورية يوروبا، والأوراق النقدية الجديدة بقيمة 50 يورو التي تحمل وجهها ستطرح للتداول في نيسان (أبريل). يقول تون روس، مدير الأوراق النقدية في البنك المركزي الأوروبي: “نحن نسعى باستمرار لأن نسهِّل على الناس قدر الإمكان اكتشاف التزوير. لذلك كنّا سعداء باستخدام صورة رأس في الصور المجسمة في سلسلة يوروبا الجديدة الخاصة بنا”.
هذه خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن لأنهم اختاروا وجها أسطوريا دون وجود إصدار واحد “صحيح”، فهو أقل فائدة قليلا من وجه يتعرّف عليه الجميع.
بعد ذلك أوصيت بأن جميع الأوراق النقدية لليورو ينبغي أن تكون بالحجم نفسه، كما هي الأوراق النقدية الأمريكية. هذا على الأقل يجعل الناس ينظرون إليها فترة أطول قليلا لمعرفة ما يتعاملون معه. مع الأسف، أجاب المجلس، أن هذا قد يتطلب إعادة تصميم جميع آلات البيع الأوروبية. هذا يتطلب عملا كثيرا فوق الحد. ما هي توصيتي التالية؟
الآن قدّمت حجتي الفاصلة. قلب المشكلة كان أن الأوراق النقدية كانت مملوءة بميزات زخرفية ليست لها علاقة بالأمن: الأشجار، والأبطال الوطنيون، والطيور، والأعلام، والألوان الدوامة. لا أحد يُلاحظ الميزات الأمنية بسبب جميع عوامل الإلهاء المذكورة. جزء من العملة، كما اقترحت، ينبغي أن يكون قطعة ورقية بيضاء فارغة مع صورة مجسمة واحدة في الوسط. هذا كل شيء. المزوّر لن يكون قادرا على نسخ ذلك على طابعة، والرجل في الشارع لن تصرف انتباهه كل التفاصيل التي لا علاقة لها بالأمن.
وافقوا على توصيتي الأخيرة، من الناحية النظرية - لكن رفضوها في نهاية المطاف على أساس أن هناك جوانب كثيرة فوق الحد من الزخم الثقافي في تصميم الأوراق النقدية.
بعبارة أخرى، يتوقع الناس أن تبدو الأوراق النقدية بطريقة معينة. العملات من المفترض أن تُبهر المشاهد بما تبرزه من السلطة الفخمة والمواهب الفنية للهيئة الحاكمة. على ما يبدو، لا توجد حكومة تُريد أن تبدو غير فخمة وغير فنية مقارنة بحكومة أخرى. وهكذا وصلت التجربة إلى نهايتها.
الحلول الفعّالة تتعثّر في بعض الأحيان في وجه التقاليد. لكن إذا كنّا نهتم فعلا بشأن معالجة المشكلة، سيكون علينا تجاوز التمسك بالعادات. لا يُمكن أن نتوقع من النظام البصري البشري ملاحظة الميزات الأمنية التي تحيط بها هالة كبيرة. لتحسين مجتمعنا، سيكون علينا بذل قُصارى جهدنا لفهم تفاصيل الأدمغة التي يتألف منها ذلك المجتمع.

*عالِم أعصاب في جامعة ستانفورد ومؤلف الكتابين الأكثر مبيعا «المجموع» Sum و«المتنكر» Incognito، ومؤلف المسلسل التلفزيون على شبكة بي بي سي «الدماغ» The Brain

معهد دبي القضائي ومحكمة التركات بمحاكم دبي يحتفيان بتخريج أول دفعة من دبلوم أوصياء التركات


مطالبات بتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص بحضرموت لتشجيع الاستثمار في المحافظة


الإمارات العربية المتحدة تتصدر مجال الذكاء الاصطناعي مع انطلاق الأسواق العالمية في سباق لاستقطاب أصحاب الخبرات لتلبية الطلب العالمي


اختتام فعاليات مؤتمر الإعلام اليمني الثالث