علاج الفيروس المالي

أحد إفرازات الحالة المالية، حيث يسيطر العقل “المالي” على الوعي “الاقتصادي”، أن المصلحة الفردية تصبح أهم من الجماعية. النتيجة العملية تكريس نموذج إداري فوقي – الاهتمام والاعتماد على الإدارة العليا دون الجرأة على إدارة الحيثيات والتصرفات على مستوى الجذور ممثلة بتصرفات العامة. حينها تصبح الدعوة للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي نزعة مثالية في بيئة تغرد بعيدا. الإصلاح يتطلب تحويل المنظار الفكري من مداخله المالية إلى مدخل اقتصادي. المدخل الاقتصادي يحاكي مركزية تكوين رأس المال المادي والمعرفي بينما المالي يقطع الطريق على العمل ويذهب مباشرة للمصلحة الشخصية. تحدث ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن الإدمان على النفط، ما يدل على الوعي بالحالة في أعلى الهرم الاقتصادي. محاولة القفز من حالة مالية إلى حالة اقتصادية لن يحدث في السنوات القليلة القادمة لأسباب موضوعية ولكن الضغوط الجيلية والاقتصادية والمالية والخارجية وطموح القيادة والعامة لن تتوقف. واقعيا هناك مرحلة متوسطة لتهيئة عملية التحول. إذ لابد من تغيير قوانين اللعبة لما في ذلك من استحقاقات ليس اقتصادية فقط وإنما في دوائر مجتمعية أوسع.

الكثير يقبل أن الفيروس المالي تغلغل في الوسط الاقتصادي والاجتماعي ولذلك يصبح العلاج منه صعبا مهما بدت الخطط واعدة والنيات طيبة والعزيمة صادقة. سبب تغلل الفيروس مادي (النفط) وإداري (لم يكن هناك تفريق منهجي بين الاقتصادي والمالي)، ولكن تشخيص المرض شيء والإجماع على علاجه شيء آخر. ما يزيد الإشكالية تعقيدا نظريا وعمليا أن هناك تداخلا بين المالي والاقتصادي. الحل المرحلي لابد أن يمر من المنظار المالي ولذلك الحل ضد الإدراك الطبيعي counter intuitive – علاج المال لابد أن يمر من خلال المال. مواجهة الاستحقاق المالي ستقود إلى أرضية جديدة نستطيع التعامل معها من منظار اقتصادي. إحدى إشكاليات الطرح اليوم أننا نحاول تغيير الأوضاع الاقتصادية دون تغيير تصرفات الناس والشركات والمنظمات العامة. نحن اليوم نأخذ بمنظار مالي ولكنه غير مناسب على أكثر من صعيد. القياس والدقة والعدالة لابد أن تكون أساسا لمنظومة توزيعية جديدة.

المنظومة القديمة لم تستطع التفريق بين المواطن والوافد بدقة في الدعم ولم تستطع التفريق بين الغني والفقير في الدعم ونواح أخرى ولم تستطع التفريق بين الكفؤ والراكب المجاني ولم تستطع التفريق بين الاستهلاك والاستثمار – قاعدة أساسية للنمو. المنظومة المقترحة لن تستطيع التعامل مع كل هذه المسائل بكفاءة في المرحلة الوسطى ولكنها ستغير النموذج جذريا وتمهد لمرحلة متقدمة. المنظومة الجديدة ترتكز على توزيع نحو 35 مليار دولار سنويا – نحو ثلاثة آلاف ريال شهريا لكل عائلة سعودية (نحو 90 في المائة) من العائلات ورفع الدعم عن كل المنافع والخدمات. هذا الدخل سيعوض المواطنين عن التكلفة الاقتصادية ويجعل المملكة مرتفعة التكاليف على الوافد ما يمكن المواطن العامل من المنافسة حيث إن الدخل الإضافي لن يغني أحدا عن العمل. كما أن الظروف الموضوعية اجتماعيا وإقليميا ودوليا تتطلب إعادة صياغة المعادلة المجتمعية. أحد الجوانب العالمية أن هناك دعوة متكررة “للدخل الأساس” ليوفر الحد الأدنى من العيشة الكريمة، ما أدعو له مختلف في الحافز والدرجة ولكنه يصب في الاتجاه نفسه.

ستنشأ بيئة اقتصادية جديدة تستطيع الحكومة فيها توفير أموال للاستثمار وتخصيص الشركات الحكومية دون دعم. تخصيص شركات حكومية مدعومة لن يكون قابلا للاستمرارية بينما تخصيص شركات ذات عائد اقتصادي يجعلها قادرة على الاستثمار والنمو وتوظيف كفاءات وطنية بمستويات دخل مجز. ستتغير تصرفات الناس والشركات والحكومة لأن الأسعار النسبية في المجتمع ستتغير.

ليس هناك حل سحري لمسائل مركبة و إرث سلوكي و إداري تراكمي، ولن نقفز إلى العالم الأول من خلال النموذج الحالي. لابد من خطوات صغيرة هنا وهناك في سياسة القوى البشرية على أكثر من صعيد لتعظيم المصلحة من هذا المقترح. الحل المقترح ليس للأبد أيضا، بل إن هذا الحل يتطلب مرونة ذهنية وإدارية لإعادة المراجعة. فمثلا قد يكون مناسبا لعشر سنوات وقد يتقلص تدريجيا حسب الارتقاء في النمو والإنتاجية وتعميق دور المواطن في الأعمال الحقيقية.
نقلا عن الاقتصادية

مقالات الكاتب