ميزانية الحاسوب الفائق

في عام 2009م تولى الحزب الديمقراطي الحكم في اليابان حاملاً معه الوعود بإدارة الاقتصاد بطريقة أكثر احترافية من الحزب المنافس الذي أدار البلاد لعقود طويلة. وكان من ضمن أهم الملفات التي نفذها هذا الحزب "لجان الميزانيات" التي قامت بمراجعة جميع المشاريع الحكومية وإلغاء ما يمكن النظر إليه كتكلفة زائدة. وفي خريف ذلك العام سألتْ الوزير المكلفة بملف اللجان "موراتا رينهو" مسؤولَ البحث والتطوير بوزارة التعليم والعلوم اليابانية عن الميزانية المخصصة لتطوير أسرع حاسوب فائق في العالم، حيث قالت: "لماذا تسعون لأن تكونوا في المركز الأول؟ ما المشكلة في أن نكون في المركز الثاني؟". فأجاب المسؤول: "إن هذا الملف يرتبط بالقدرة التقنية وقوة اليابان التنافسية عالمياً". ومع ذلك كان واضحاً أن الوزيرة قد عزمت على إلغاء المشروع واعتباره ترفاً وتكلفة لا داعي لها.

وتناقلت وسائل الإعلام الياباني الخبر وتم بثه في نشرات الأخبار الرئيسية وفي صفحات الغلاف للصحف والمجلات باعتبارها قضية قومية. وعقد العلماء اليابانيون الحاصلون على جائزة نوبل مؤتمراً صحفياً أعربوا فيه عن استنكارهم لهذه النظرة الدونية للعلوم والتقنية التي كانت أساس نهضة الاقتصاد الياباني محذرين في الوقت نفسه من أن تقليص ميزانيات البحث والتطوير وإلغاء حوافز العلماء والباحثين وأساتذة الجامعات سيترتب عليه هجرة للكفاءات من اليابان إلى الدول الأخرى مما سيكون له أثر سلبي للغاية على الاقتصاد الياباني على المدى الطويل.

وفعلاً أسهمت هذه الجهود في عدول الوزيرة اليابانية عن قرارها والحفاظ على ميزانيات البحث والتطوير وكانت النتيجة حصول الحاسوب الياباني الفائق "كيه" في العام التالي 2010م على المركز الأول في تصنيف الحاسوبات الفائقة العالمي في عمل مشترك بين شركة فوجيتسو ومركز الأبحاث الوطني ريكين. هلل العلماء والإعلاميون اليابانيون لهذا الانتصار، أما الوزيرة "رينهو" فعلقت قائلة: "لقد فهمتموني خطأ! كان قصدي فقط الحرص على الاستخدام السليم للموارد العامة للدولة!".

ما الدروس التي يمكن أن نستقيها من هذه التجربة؟. يمكن التفكير بالنقاط التالية:

خطورة اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بملفات حيوية دون وجود خبراء بتلك المجالات. فلمن لا يعرف أهمية الابتكار والتقنية فلن يتعامل إلا مع أرقام فقط دون دراسة ما سيترتب على قرارات إلغاء أو تحجيم الميزانيات.

الشجاعة في التراجع عن القرار إذا تبين وجود خيارات أفضل وعدم التشبت بالرأي.

الدور الإيجابي للإعلام في القضايا الوطنية عبر الطرح الواعي وعدم الاكتفاء بالإثارة الإعلامية غير المفيدة.

النتائج الإيجابية على الأرض تقنع صاحب القرار بالتمويل.

خطورة التركيز على قطع التكاليف وإهمال الاستثمار في المشاريع ذات العوائد المستقبلية. فبدون مدخلات لا يمكن الحصول على مخرجات.

وأخيراً، فكل الدعاء بأن يبارك الله ميزانيات الخير والنماء لبلادنا الغالية لنسعد كسعوديين قيادة وشعباً بقطف ثمار النجاح لرؤية السعودية 2030م بإذن الله.
نقلا عن الرياض