الحقيقة صارت مثل الإبرة في كومة قش

كلنا نبحث عن الحقيقة. ولكن البحث عنها صار أمرا عسيرا اليوم. إنه أشبه بالبحث عن الإبرة في كومة قش.
واليوم ليس هناك حقيقة واحدة. بمعنى آخر حتى وإن عثرت على الإبرة في كومة القش، قد لا تكون الإبرة التي في ذهنك.
"في ذهنك" هذه العبارة صارت بيت القصيد. الحقيقة في ذهني لا تشبه الحقيقة في ذهنك. أصبحنا اليوم ضحية لأذهاننا، أي وجهات نظرنا وميولنا.
ووقعنا بسبب ذلك في طامة كبرى. وما أدراك ما الطامة الكبرى.
الطامة الكبرى هي أننا لم نعد سادة أذهاننا وميولنا. الذهن والميل ووجهة النظر يحددها لنا ويسيّرها لنا أصحاب السلطة من الذين يحتكرون المعرفة ولديهم القوة والجاه لفرض رأيهم علينا.
ودخلنا لا سيما في السنة الماضية حقبة يطلق عليها بالإنجليزية post-truth وهو مفهوم فكري وفلسفي أرى أن ترجمته العربية الحالية "ما بعد الحقيقة" أبعد عن الحقيقة ذاتها.
العبارة الإنجليزية post-truth لا تعني "ما بعد الحقيقة" لأن البادئة post هنا لا شأن لها بمعنى "التالي" أو "بعد" كما هو شأنها في تعابير مثل post-war.
العبارة بالأحرى تعني أن مفهوما محددا أو ما كنا نتفق على أنه الحقيقة أو جزء منها لم يعد له أي أهمية أو صار غير ذي صلة بالموضوع قيد البحث.
وكذلك تعني أن الحقيقة كمفهوم وواقع اجتماعي بدأت تتبخر أمام أعيننا لأننا صرنا أمام حقائق وحقائق مضادة تنطلق من عواطفنا وميولنا ومعرفتنا التي لا نملكها بل يحتكرها غيرنا.
البحث عن إبرة الحقيقة في كومة القش يشير إلى الظروف التي نمر بها اليوم التي يكون فيها للعواطف والآراء الشخصية (السلطوية) وقع أكثر بكثير على الرأي العام من الحقائق الموضوعية.
نحن نمر بحقبة تسمح لأي سياسي ومحتكر للمعرفة أو مجموعة ذات ميول وعواطف خاصة انتقاء ما تراه موائما لميولها وتخرج بالنتيجة أو الحقيقة التي تبتغيها.
كل واحد منا اليوم له حقيقته الخاصة به. والأنكى له نصوصه وحساباته وإحصائياته وسياقاته التي يستند إليها في بحثه عن الحقيقة.
واللغة نطاوعها أو نحمِّلها الثقل الهائل للحقائق التي نقول إننا نملكها. حقيقتي المنطلقة من ميولي لها مدلولات خطابية محببة. ما يراه غيري حقيقة لها لديه مدلولات محببة وألفاظ أحسن من الحسن.
بيد أن حقيقتي هي "الحقيقة" وحقيقة الآخر ليست كذلك وعليه أطاوع اللغة للإساءة إليها.
أما ماذا تقول "الحقيقة" وما تنقله التجربة العملية والعلمية وما نستشفه من الإحصائيات الموثقة لم تعد ذات أهمية.
مهما قالت الإحصائيات إن الخطر المزعوم للمسلمين الأمريكيين مثلا مبالغ فيه جدا، وإن الجريمة التي تنسب إليهم نسبتها أقل بكثير مما يقترفه الآخرون إن أخذنا نسبتهم إلى مجموع السكان في عين الاعتبار، فإن ذلك لا أهمية له.
لماذا؟ لأن عواطف الناس ومشاعرهم تقول إن المسلمين خطر.
الحقيقة لم تعد جزءا من المعرفة العلمية الرصينة. إنها صارت في كل مكان تقريبا من اختصاص الذين يملكون ويحتكرون السلطة والمعرفة، وهؤلاء في كل زمان ومكان ينطلقون من أهوائهم ومشاعرهم وعواطفهم وذهنياتهم الضيقة.
وبدلا من أن تتحكم فينا الحقيقة صارت الأكاذيب(العواطف والميول) post-truth هي التي تحكمنا.
عبارة post-truth صارت من المفردات المتداولة في الإعلام ما حدا بمعجم أكسفورد إلى إضافاتها إلى معاجمه وإعلانها أكثر كلمة تأثيرا وشيوعا في العام الماضي.
وإن أعدنا صياغتها إلى اللغة العربية فإنها تعني أن أصحاب ومحتكري السلطة والمعرفة صاروا اليوم هم الذين يحددون لنا ما هي الحقيقة بغض النظر إن كان بإمكان العلم والنظرية والتجربة والواقع الاجتماعي البرهنة عليها أم لا.
وهكذا دخلنا حقبة ما يطلق عليه بالإنجليزية post-truth. سأتجنب تقديم ترجمة محكمة لها بعد أن شرحتها ببعض التفصيل عسى ولعل يساعد هذا الشرح المختصين على تعريبها بصورة موائمة.

مقالات الكاتب