الشركات الناشئة .. والأموال الوفيرة

نشهد حاليا موجة عارمة من المبالغة بشأن الشركات الناشئة. واليوم باتت كل واحدة من المدن الكبرى في العالم تطمح إلى التحول إلى معقل للشركات الناشئة. مدينة نيويورك غدت نموذجا يحتذى لمعاقل الشركات الناشئة؛ وبرلين ولندن كانتا قبل عامين أو ثلاثة مقصدا للشركات الناشئة؛ ونيروبي هي درة الشركات الناشئة في إفريقيا؛ أما دبي فقد روجت لنفسها باعتبارها قبلة هذه الشركات.
 ينظر إلى الشركات الناشئة باعتبارها الحل الجديد لإيجاد الوظائف في الاقتصاد الوليد لما يسمى "الثورة الصناعية الرابعة". وهذه الشركات يمكنها بالفعل المساعدة في جلب وظائف المستقبل ــ تلك الوظائف الجديدة التي تولدها الصناعات الحديثة والتكنولوجيات. وقد حدث هذا بالفعل في مدينة نيويورك، حيث أثمر الارتباط بالصناعات المحلية إيجاد فرص عمل جديدة، وصناعات جديدة، والارتقاء بقدرة القطاعات التقليدية على المنافسة. والأمر هنا لا يتعلق فقط بالوظائف، فقد جاءت حلول بعض التحديات الإنمائية الصعبة، كالدفع الإلكتروني وتوفير الطاقة في مناطق غير مرتبطة بشبكات الكهرباء، من مواقع الشركات الذكية في نيروبي والهند.
 وإنني أتعجب في الواقع وأنا أزور هذه المدن إذا ما كان التأثير الحقيقي ــ والمحتمل ــ لهذه الكيانات الناشئة مبالغا فيه، وما إذا كنا نشهد جميعا طوفانا من الاهتمام والموارد التي لا يمكن ترجمتها إلى حلول "سحرية" للبطالة وتحديات عالمية أخرى.
بالفعل، يبدو عديد من المنظومات التي زرتها ودرستها مبالغا فيها. فكثير من الشركات الناشئة لا تقوى على الاستمرار، بينما تتكرر الإشارة إلى العدد القليل الذي نجح منها. فالشركات الناشئة منفصلة عن الصناعات المحلية وقلما يستوعب الاقتصاد ابتكاراتها.
وفي بعض الحالات، تكون النتيجة إطلاق برنامج تدريبي واسع النطاق يستطيع من خلاله جيل جديد من رواد الأعمال الطامحين تعلم مهارات فنية وإدارية (وهذه نتيجة جيدة). وفي حالات أقل، تستمر المنظومة، ما يجلب شركات جديدة ناجحة تعيد الاستثمار في مواهب جديدة وتتصل بقاعدة الصناعات المحلية (وهذه نتيجة أفضل).
بيد أن هذه الحالات لا تكاد تعد على أصابع اليد، وليس من السهل الوصول إلى هذه النتيجة. وأنا أرجح أن السبب في هذا يعود إلى عدم نضج البنية التحتية الداعمة لهذه المنظومة، فضلا عن الافتقار إلى فهم ما نحتاج إليه من أجل ترجمة حماس رواد الأعمال الجدد والمبتكرين إلى زيادة في مستويات الإنتاجية ونجاح الشركات.
وتتفاقم المشكلة مع تدفق الأموال على قطاع الشركات الناشئة. ومع استمرار انخفاض أسعار الفائدة، يلجأ المستثمرون إلى صناديق رأس المال الاستثماري وبدائل مماثلة، أملا في أن يجنوا ثمار الاستثمار في شركات ناشئة كأسطورتي أوبر (Uber) وأير بي أن بي (Airbnb). ولكن، كما حدث في "فقاعات" سابقة، نفد المخزون من الشركات المربحة التي يمكن أن تحقق نجاحات أسطورية.
 وانتقلت الظاهرة من أسواق البلدان المتقدمة إلى النامية. ففي تلك البلدان، حيث كان مستثمرو القطاع الخاص ما زالوا يلزمون الحذر ويحجمون عن المخاطرة، تقدمت المؤسسات الحكومية للحد من هذه المخاطر (بل حتى إزالتها). على سبيل المثال، غمر مصرف لبنان المركزي سوق الاستثمار في الشركات الناشئة بأكثر من 400 مليون دولار، بينما تتضاعف البرامج العامة التي تدعم تسريع وتيرة الشركات الناشئة في أمريكا اللاتينية.
 وكانت النتيجة في كثير من الحالات ظهور طبقة من رواد الأعمال الذين أصبحوا خبراء في التنقل من برنامج إلى آخر وفي الفوز بالمسابقات دون الخروج إلى السوق أو تحقيق أي أثر سواء من حيث إيجاد الوظائف أو الإنتاجية. وأنا أطلق عليها "الشركات الحية الميتة".
إن تدفق الاستثمارات وتطوير المنظومات ليس سيئا في حد ذاته. في الحقيقة يمكن تعزيزه من قبل المعنيين وواضعي السياسات المحليين لإيجاد منظومة مستدامة وصحية تجلب وظائف وابتكارات جديدة. لكن الأمر بالأحرى يتعلق باستشراف التوقعات الصحيحة وليس بالمبالغة فيها، والأهم، بفهم وتعزيز الديناميكيات التي يمكن أن توجد شركات ناشئة قادرة على الاستمرار والمنافسة مع مرور الوقت.
 كلما رأيت كم من المنظومات لا تفعل ذلك، كلما تعجبت ما الذي سيحدث عندما تبدأ أسعار الفائدة في الارتفاع ومن ثم ينحسر تدفق الأموال. والنتيجة الأرجح هي انفجار كبير في فقاعة هذه الأنظمة.
 وهذا ينبغي أن يثمر أنظمة أكثر إنتاجية وصحة بعد مرحلة التعافي. ومع هذا، فإننا نعلم من انفجار فقاعات اقتصادية سابقة أن هذه العمليات مؤلمة، كما أن العواقب غير المقصودة الناجمة عن الصدمة تظل مجهولة.