هل يجد العربي مخرجا؟

لم يختزل العربي تجربة الموروث على الرغم من قيمته العالية المتمثلة في الرسالة المحمدية والنهضة الإسلامية العربية، أو لعله بسبب قوة الموروث وسيطرته على الأفئدة إلى حد أنه وقف سدا منيعا أمام قدرة الاختراق إلى أفق جديد. الاختراق لا يعني التنكر ولكنه يعني التفوق على النفس باختزال التجربة وتنقيحها والصعود بها إلى مدار جديد. لعل القليل يعارض هذا الطرح، ولكن المنظار العربي تشوبه تشوهات أخرى بعضها يكاد يكون بيئيا، حيث إن تقلبات حياة الصحراء منعته من تأسيس الصبر الملازم للتروي والعمل المنظم. أصبح العربي ضحية هذه الثنائية، فهو على المستوى المعرفي والوجداني حبيس الماضي، وعلى مستوى الحاضر حبيس عدم القدرة على الصبر والتأني الملازم لتراكم المعرفة والإنتاجية. هذه الثنائية جعلت السياسة والتسيس بديلا عن التجديد الفكري والعمل الاقتصادي، فأخذ الاقتصاد مرتبة ثانوية وأحيانا في المرتبة الثالثة بعد البعد الاجتماعي. ما يهمني هنا تسيس الثقافة العامة إلى حد عدم الاهتمام بالتنمية الاقتصادية. للمثالية تأثير خبيث آخر حين تحد من الرغبة في التجريب ولذلك يصبح  دور التعليم والمعرفة  محدود الدور فعليا. الربط بين الحالة التاريخية والواقع دائما مجال للجدل والخلاف والاختلاف، ولكن في نظري هناك خيط وثيق بين الماضي والحاضر والاستعداد للمستقبل لم يتمكن منه العربي حتى الآن.
جاءت في بالي هذه الخواطر حين استمعت إلى مجموعة من المثقفين والأكاديميين والقادرين ماليا تتحدث عن "الرؤية" وخطط التحول الوطني. لفت نظري أن مركزية الحديث تدور حول طبيعة البعد "التوزيعي" في المعادلة الاقتصادية وليس الإنتاجية أو تعميق المعرفة والمسألة الشخصية والعامة. الماتع أن الحديث كان في الجوهر عن التوزيع بينما القشرة عن "الرؤية" و"التحول الوطني". فهذا أكاديمي يريد اختزال الطبقة الوسطى من منطلق راتب "20 ألف ريال"، وآخر يريد إعادة الموروث الذي قبل الطفرة فقط، وآخر يريد مثاليا أن نكون مثل سنغافورة وسويسرا دون المرور بالمراحل المتعاقبة، وآخر يعتقد أننا ضللنا طريق الأسلاف بما يحمل من نقاء وبالتالي سنعاني لحين العودة إلى الصراط الذي يتخيله. هذه نماذج مهمة لمعرفة الواقع الثقافي وكيف ترى قطاعات من المجتمع محاولة التغيير الاقتصادي. تجمع هذه النماذج ماديا نزعة توزيعية، وفكريا ووجدانيا مثالية الماضي الغابر، ولكن للحق لم أسمع رغبة وتعطشا للتقدم ودفع تكلفة التقدم الاقتصادي. هذا لا يعني أن ليس لديهم طموح أو حتى وطنية أو أنهم متشائمون، ولكن يعني أن الهم الاقتصادي التنموي ليس في المقدمة على الأقل في محصلة الوعي الثقافي العام.
المخرج يمر من خلال كسر الجمود الثقافي، ولكن المراهنة على كسر الجمود وحده ستأخذنا سريعا إلى المربع الأول في جدلية الموروث وعدم القدرة على الخروج منها والهروب إلى التسيس والتمصلح منه. لابد من بوصلة علمية اقتصادية والعمل عليها تباعا وتدريجيا أو ممارسة درجة أعلى من ضغط الزمن من خلال ممارسة إدارية مختلفة عما تعودنا عليه. لا بد من وضوح استراتيجي وتضافر للجهود على الأقل في طبقة المثقفين الأكاديميين ورجال الأعمال وجميع المؤثرين. يقول كيسنجر وزير خارجية أمريكا الأسبق إنه مهما كانت الاستراتيجية جيدة في عقول المخططين إلا أنها لن تتحقق إذا لم تدخل قلوب المنفذين. هناك بعد وجداني وعاطفي لبيع الفكر والموروث والأمل والطموح وهناك بعد عملي يتطلب بوصلة ومعايير للقياس على أكثر من فضاء.        

مقالات الكاتب