الثقافة والفكر .. أيهما يقوم بتحديث الآخر؟

تأملت في العلاقة بين الفكر، والثقافة، أيهما ينتج الآخر، وهل هناك مرحلة ثقافية إذا ما تم بلوغها أنتجت فكرا، أم أن العملية التراكمية للثقافة هي ما ينتج الفكر، طالما اتسمت الثقافة بحالة النمو والتطور، وعدم التوقف، والجمود. قد يكون من المستحيل البت في هذه المسألة، إذ لا يمكن القول إن الثقافة دائما هي التي تنتج الفكر، كما لا يمكن القول إن الفكر هو منتج الثقافة، ومصدرها، ولعله من المناسب استقراء حالة الشعوب، والمجتمعات لمعرفة الحقيقة في هذا الشأن، وإن كانت حقيقة نسبية غير مطلقة.
عبر التاريخ نشأت حضارات بنيت على فكر فلسفي، أو ديني، أو وثني لا يرتقي لمستوى الأديان، أو حتى الفلسفات، كما وجد فلاسفة، ومفكرون لهم رؤاهم في الحياة، تم بناء على هذه الفلسفات نشوء حضارات ودول كما في حضارة الإغريق التي أخذت بفلسفات أفلاطون، وسقراط، وأرسطو، كما أن في التاريخ القريب، والمعاصر من الدول، والمجتمعات من صنع حضارة تأسيسا على منظومة فكر فلسفي، له تصوره في الحياة، وكيف يكون المجتمع، وكيف يدار. إنجلز وماركس فيلسوفان تبنيا وطورا الفكرة الاشتراكية كنظام حياة ينظم المجتمع، ويرتب أموره، ويدار وفق معطيات الفلسفة الاشتراكية. ولوجود الظروف الاجتماعية السائدة في الإمبراطورية الروسية المتمثلة في الإقطاع وحياة الرفاهية لفئة محدودة من الناس على حساب أكثرية الشعب الذي كان يعيش حياة السخرة والعبودية، سرى الفكر الاشتراكي بين الناس ووجدت القناعات عند المؤثرين في الواقع لتحدث الثورة البلشفية وتزول الإمبراطورية.
بقيام الاتحاد السوفياتي وتبنيه المنهج الاشتراكي أوجد النظام الجديد ثقافة تتناسب ولو نظريا مع الفكر الجديد، وإن كان من الناحية العملية يوجد الانفصام بين الفكرة والتطبيق. النظام الجديد سعى لإيجاد مفهوم شمولي للحكم يتم من خلاله غرس ثقافة جديدة يتحول فيها مفهوم العبودية من الإمبراطور للحزب الحاكم الوحيد في البلد الذي لا ينافسه حزب آخر لأنه لا مكان لتعدد الأحزاب. الثقافة الجديدة المستمدة من الفكر الاشتراكي شملت الاقتصاد، والأسرة والملكية، وعلم الدولة، واللون الأحمر، ليكون رمزا يلتف حوله الجميع. ولتحقيق، أو فرض ثقافة شمولية على الجميع أسهم الإعلام، ومؤسسات التربية، إضافة إلى مراكز تكوين الشبيبة، وصناعة الأجيال المؤمنة بالنظام الجديد، المتبنية لما يطرحه من أفكار، وقيم، ومعتقدات، وسلوك يتفق مع المبادئ الاشتراكية.
في المقابل النظام الرأسمالي كان في البداية فكرة فلسفية طرحها آدم سمث، صور فيها حركة الاقتصاد، وحرية التبادل التجاري، وتحديد الأسعار، لتكون وفق قاعدة العرض، والطلب. وبتبني بعض الدول الأوروبية، وأمريكا المبدأ الرأسمالي نشأت معه ثقافة، ليست في مجال الاقتصاد فحسب، بل شملت التربية، وتأكيد مبدأ الفردية، والتنافسية بين الأفراد، والمؤسسات، ونتج عن ذلك الاهتمام بالفروق الفردية، وتنميتها بدلا من إذابتها، كما تسعى إليه الفلسفة الاشتراكية. كل هذه شكلت ثقافة اجتماعية عامة تعبر عن نفسها في التعاملات السياسية مع الدول الأخرى، وفي سن القوانين، وفي المنتجات كافة، كما في الإعلام، والدعاية القوية، لتنشيط الاستهلاك المفرط، الذي لا حدود له.
الديانات السماوية، ومنها الإسلام، في الأساس هي نظام حياة يراد للناس اتباعه، والسير وفق مبادئه، جاء في البداية لتغيير معتقد الناس، بدلا من الشرك إلى الوحدانية، ولم ينزل جملة واحدة، بل تم بالتدريج ليشكل نظاما متكاملا لجميع مجالات الحياة "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي".
العرض السابق في مجمله يكشف لنا كيف أن الفكرة إذا وجدت من يتبناها، ويعمل من أجلها تتحول مع الوقت إلى ثقافة عامة يتبناها، ويفخر بها معظم أبناء المجتمع، ما عدا الشواذ منهم، وهؤلاء موجودون في المجتمعات والعصور كافة، إلا أن هذا لا يعني أن الثقافة لا تنشئ الفكر، وتبعثه، بل إن الثقافة المستمدة من فكرة تولد فكرة، بل أفكارا جديدة، حسب الظروف، والمستجدات في الحياة، فالفكر الاقتصادي الحديث هو مجموعة أفكار تبلورت وفق سياقات ثقافية، خاصة، فعلى سبيل المثال المصارف في الأوطان الرأسمالية جاءت نتاج ثقافة عامة قائمة على مبادئ، وأسس الرأسمالية، كما أن المصارف الإسلامية نشأت وفق مبادئ الإسلام، وثقافته الخاصة بالاقتصاد.  
العلاقة بين الفكر والثقافة تأخذ شكل المتوالية، فالفكر عندما يفعَّل، ويجد من يتبناه تتشكل له عناصر، ورموز تنتهي إلى إطار مرجعي يأخذ به الناس، ويتمسكون به، ويشعرون بمشاعر إيجابية نحوه، وهذا ما يطلق عليه الثقافة، كما أن الثقافة توجد فكرا متجددا، متى ما كانت الثقافة حية، وتتفاعل مع مستجدات عصرها.

*الاقتصادية السعودية