كلنا متحيزون.. فما العمل؟

يقول العلماء النفسيون إن التحيز والتحزب لا نقرره نحن، بل العقل الذي نحمله هو الذي يقرره لنا. ويضيف العلماء أن العقل البشري يؤكد ويؤشر إلى الاستنتاج الذي نصل إليه عند تقديم رأينا حول أي شيء مضاد لما نحمله من فكر أو وجهة نظر أو ميل.
ويذهب بعض العلماء إلى حد يعزون فيه المواقف التي نتخذها إلى الفطرة التي نجبل عليها منذ الصغر والبيئة التي نترعرع فيها. هذه البيئة تؤثر في تكوين عقولنا ومسارها ومن ثم سيطرتها على ميولنا.
مقدار تحكمنا في مواقفنا ووجهات نظرنا محدود، حسب هؤلاء العلماء. ولهذا السبب قلما يستغرب علماء النفس عندما يواجهون مواقف جائرة، فيها كثير من التحامل والتحزب والإجحاف والمحاباة. مثل هذه المواقف يعزونها إلى الطبيعة البشرية التي تقاوم أي شيء يعارض توجهاتها التي شبّت عليها.
التحيز في الخطاب الإعلامي، غير مرغوب فيه، بصورة عامة، قلما تعترف مؤسسة إعلامية بأنها متحيزة لجهة ضد أخرى وأغلبها ترفع شعار "الرأي والرأي الآخر،" بمعنى أن الرأي المضاد يساوي الرأي الذي أنا أحمله أو أي رأي آخر أتناوله.
علماء النفس وكثير من الفلاسفة لا يتفقون مع هذه الفرضية ويؤكدون أنه من الصعوبة بمكان، إن لم يكن الأمر مستحيلا، أن نضع الرأي الآخر أو الموقف الآخر أو وجهة نظر مضادة مساوية أو لها القيمة ذاتها لما لدينا.
ولهذا من النادر أن نحاول إثارة أسئلة أو شكوك حول وجهات النظر المطابقة لما لدينا، لأننا في الغالب نراها سليمة وموائمة وتتطابق مع الحس الإنساني السليم، ونثني على أصحابها.
أما وجهات النظر أو الميول التي نختلف معها أو تقف بالضد لما لدينا، فإننا نثير كثيرا من الأسئلة والشكوك حول مصداقيتها. ولأنها تضاد ما لدينا، فنحن نثير الشكوك حول مصدرها ومروجها والوسيلة التي بواسطتها وصلت إلينا.
خذ مثلا الوسيلة الإعلامية الشهيرة "بي. بي. سي" لو نشرت خبرا يوائم وجهة نظري وميولي وأفكاري، لاتخذت من الوسيلة هذه برهانا ودليلا على مصداقية وموضوعية ونزاهة ما أتت به.
وإن نقلت الخبر ذاته للآخرين، لذكرت اسم هذه الوسيلة كدليل وبرهان ليس فقط على مصداقية الخبر الذي نقلته بل نزاهتها أيضا ـــ كل هذا لأن الخبر الذي نشرته يتفق مع وجهة النظر أو الميل الذي أنا عليه.
ولنأت بموقف مضاد. في هذه الحالة تنشر الوسيلة ذاتها الإعلامية خبرا يعارض وجهة نظري وميولي. في هذه الحالة سأثير كثيرا من الأسئلة والشكوك منها ما قد يصل إلى اتهام الـ"بي. بي.سي" بالانحياز والإجحاف لا بل الجور وشتى الادعاءات الأخرى.
هل أنا بإراداتي اتخذت موقفين متعارضين وعلى طرفي نقيض من الـ "بي.بي.سي"؟ كلا. الموقفان متأصلان فيّ ولهما إشارات في الدماغ تضيء لي دربي عند التعامل مع موقف يوائم ميولي ووجهة نظري وموقف مضاد لميولي ووجهة نظري.
أنا لست إلا رهينة محبسين، كل له شروطه للتعامل مع الميول ووجهات النظر التي تواجهنا ونتعامل معها.
المحبس الأول، يشدني إلى ما أنا عليه من ميل وثقافة وفكر، لا يشدني وحسب بل يجرني ويسحبني إلى أطر خطابية أو ممارسات قد لا تخطر بالبال للدفاع عما أنا عليه.
المحبس الثاني، يشدني إلى مقاومة كل ما هو مضاد ومعاكس للميل والثقافة والفكر الذي أنا لست عليه، لا يشدني وحسب بل يجرني ويسحبني إلى أطر خطابية أو ممارسات قد لا تخطر بالبال لمقاومة الذي أنا لست عليه.

مقالات الكاتب