السياسات الخفية في العمل

ابتسامة صغيرة وترحيب دافئ ثم قرار نقل مفاجئ إلى منطقة نائية. يقول: "أنا أكره هذا المكان، الجميع يملك أكثر من وجه.. انظر إلى فلان، ناجح جدا، لأنه فهمهم من البداية ويعرف تماما كيف يصل إلى ما يريد". آخر يقدم موافقته في الاجتماع على الفكرة المطروحة، ثم يجمع لاحقا كل العوائق الممكنة ويضعها في طريق القرار، تشعر دائما بأنك لن تفهمه، فهو صباحا مع موجة المد وفي نهاية النهار مع موجة الجزر. أحد الممارسين المحترفين لهذا الأسلوب المثير للجدل يخطط على مدى سنوات في صمت، يحصل على تأييد الجميع، يضحي ربما بأحدهم، ثم ينال مبتغاه وكأنه حصل عليه مصادفة وبحسن النية الخالصة جدا. يدعونها في الغرب الـ Office politics أو Workplace politics، وقد تعرف بأنها مجموعة من الممارسات التواصلية غير المباشرة التي يتم بها الضغط على أطراف أو إجراءات معينة لتحقيق منافع محددة، هي في الأغلب منافع شخصية. لم أجد مصطلحا عربيا رسميا يطلق على هذه الممارسات، ولأنها تظهر للآخرين بطريقة مختلفة عن هدفها الأصلي، سأطلق عليها السياسات الخفية. علما بأن بعضهم يضعها في خانة التزلف واللف والدوران، وربما "الفهلوة" واللؤم والخداع والنفاق، وبالتأكيد في مرحلة ما، الفساد. فكرة عدم التصريح بالهدف الحقيقي لسلوك ما أثناء التصرف مع الآخرين قد تدخل ضمن ممارسات الكذب المباشر أو تعتبر شكلا من أشكال غياب الشفافية والصراحة. لهذا، تفسر السياسات الخفية في أماكن العمل بأنها سلوك سلبي مخادع لا يخرج بأي أثر إيجابي في ممارسه وفي من حوله، وهي تصرفات تثير الضغائن وتنمي الشك خصوصا بعد حدوث "المقلب" واكتشافه. ولكن على الرغم من ذلك، سنجد أن هذه الممارسات منتشرة بشكل واسع وأحيانا يشار إلى ممارسها بالذكاء ومعرفة من أين تؤكل الكتف، ربما لأن السياسة فعلا ضرورية في كثير من الظروف. تقترب بعض مبادئ الانتهازيين والمجرمين كثيرا من هذه الممارسات وتؤيدها وتشجع حضورها. قراءة لكتاب مثل "كيف تمسك بزمام القوة" لروبرت جرين يوضح هذه الإشكالية المثيرة للجدل، على الرغم من أن النصائح التي يطرحها فعلا مؤثرة وتحول الضعف إلى قوة. الملاحظة الدقيقة للإشكاليات الأخلاقية في قصص النجاح المحلية توضح أننا لسنا في منأى عن ذلك أيضا، وقد نسمي بعض التصرفات دهاء وفطنة فقط إذا كنا نقف في الجانب الذي يقف فيه الممارس نفسه. لن أحاول أن أضع حدا فاصلا بين السياسات الخفية الممكنة المقبولة في مكان العمل وتلك التي يمكن أن تمنع ممارستها، لأن وضع هذا الحد وتعميمه شيء من المستحيل. كذلك سيكون من الصعب وضع قواعد عامة لتصنيف هذه التصرفات كذكاء مقبول أو نفاق ممقوت، على الرغم من التفريق بين الأخلاقي وغير الأخلاقي في الأساس أمر سهل وواضح. أعتقد أن هذه الضبابية ترتفع لدينا محليا لسببين، أولا، لأن ممارسة السياسات الخفية أمر محدود إلى حد ما يمارسه البعض في مجتمع مبني على السجية والعفوية والصفاء، والثاني أن التوعية بأخلاقيات العمل وقواعد الأداء ضعيفة ولا توجد حوافز لتنمية هذا الوعي. وكون أننا ندعي العفوية ونحب الصفاء لا يعني أننا يجب أن نتجاهل قضية السياسات الخفية، فأي واحد منا قد يقع بسهولة في مصيدة الممارس لهذه الأمور أو المتضرر منها، خصوصا عندما تصبح لا أخلاقية أكثر ويبدأ ممارسها في التمادي استمتاعا أو انتهازا لوضع ما. استيعاب الموظف لثقافة المنشأة يمكنه من معرفة المحيط الذي يستوعب والقنوات التي تمرر السياسات الخفية، وربما تعطيه إشارة إلى حجم التلاعب والمخاطرات التي يقدم عليها المشاركون في هذه اللعبة؛ هي لعبة يبحث فيها المشارك عن التنفع والقوة سواء كانت عن طريق الترقيات والمكافآت أو عن طريق الحصول على مزيد من الحضور والسُلطة. بالاستيعاب الجيد لهذا الوضع مع إجادة مهارات التواصل مثل الحضور والملاحظة والعرض والاستماع، وبالاستناد إلى قواعد أخلاقية متينة، يستطيع الفرد أن يتعامل مع السياسات الخفية بشكل إيجابي، سواء كان المطلوب منه في ذلك الموقف مقاومة من يمارسها أو الانخراط فيها بشكل محدود وأخلاقي. مربط الفرس هو مراجعة تصرفاتنا وإخضاعها للمعيار الأخلاقي بشكل مستمر، فليس أسوأ من السخط والشكوى من ممارسات الآخرين إلا أن نتحول إلى ممارسين لهذه السلوكيات السلبية دون أن نشعر.

مقالات الكاتب