حضرموت التاريخ والأسطورة

أيها السادة الكرام ، لعلكم تظنون بتلميحي شيء ما ! إلا أنني  أريد من خلال هذا المقال أن تصل فكرة معينة للأذهان ، حاولت جاهداً ألا أكون متحيزاً لحضرميتي ، إلا أنها رغبة في وضع نقاط أظنها صحيحة على حروف بدت غريبة عجيبة ، لا أزيد فبسم الله أبدأ :

 

يقول "وندل فليبس" السياسي المحامي و المؤرخ الأمريكي :

(( لقد كانت حضرموت بلاد البخور لأنها كانت مملكة مترامية الأطراف تتوسط بلاد العرب وتمتد إلى ظفار أعظم المناطق المنتجة للبخور ))

 

ويقال الحضرمي في شرق آسيا توددا للتاجر وذلك لأن الحضرمي يوفر المال لتجارته من الاقتصاد والمنافسة وليس من اعتصار الزبائن . فالحضارم يعملون وفق قاعدة منهجية هي لا تحدث الناس عن دينك أجعل أخلاقك تتحدث عن دينك .. أنت سلوكك... أنا انسان  ..!!!

 

ولكي أدخل في بقية القصة ، سأنهي هذه المقدمة بما ورد في كتب السير ، أنها لما  جاء وفد حضرموت جاء وفدها ويرأسه (( الأشعث بن قيس الكندي ))  قيل ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال  :

 (( يأتيكم بقية أبناء الملوك ))

 

فلربما يدل هذا  أن هناك تطبع عادات  الملوك.

 

وكما ذكرت لست هنا في طور المدح ، إنما في ذكر لتاريخ وأسطورة حضرموت ، الأرض والانسان ،  ولكي لا أطيل دعوني أبدأ من البداية ومن أقدم العهود المعروفة .في هذه المنطقة من العالم والتي تميزت بجوانب لم يغفلها الباحثون ولا علماء الآثار وكذا الجغرافيون حيث ذكروا لنا أنها أنسب الوديان في العصر البرونزي للحياة وقد استعمرها الإنسان قبل غيرها من البلدان وخاصة الغرب منها ، وهي من المناطق  الثلاث  الرافدين ومصب النيل ووادي حضرموت، برزت الحياة البشرية فيها  قبل مليون ونصف المليون من السنين . و ظني أنها من أوائل المواقع التي  أستوطنها البشر وتحركوا منها حول العالم ، حيث كانت الجزيرة مرتبطة قبل بالقارتين اسيا وافريقيا قبل تشكل البحر الأحمر والخليج العربي  .. ولعل التقصير في دراسة التاريخ لهذه المنطقة واهمال أهلها أنفسهم في دراسة تاريخهم يجعل الحقائق غائبة ..

 

في هذه البقعة بالذات وفي شمالها تحديداً بما يعرف بالأحقاف الممتدة حتى تعم صحراء الربع الخالي ممتدة شاملة محافظات عدة محافظات في اليمن والمملكة ، اكبرها حضرموت  ممتدة شاملة الجوف ومارب ، قامت حضارة  وأي حضارة لم يسبر أغوارها ولا أسرارها أحد حتى الآن إلا تخميناً وادعاء ونجد من يزعم أن هذه الحضارة قامت قبل 22 قرناً من الميلاد ، وهذا أمر مستحيل التصديق فالحضارة التي نشأت هنا أقدم من ذلك بكثير ولن أخمن ولكني أظنها قبل ذلك بآلاف السنين ، إنها حضارة عاد الأولى والتي لو لم يذكرها القرآن الكريم لكانت جزءاً من الأساطير التي يتناولها الناس ويزعمون حقيقتها ، وعاد يا سادتي الكرام دولة عظيمة البنيان عظيمة السطوة والجبروت  عظيمة العلوم والمعاني ، لكنها بعدما وصلت له من قوة وعظمة غرتها الحياة الدنيا وظنت أن الحياة أبدية وتجبرت  على بقية الدول الضعيفة وكانت تبطش بأعدائها بلا رحمة ولا هوادة ، واتسعت رقعتها لتشمل الجزيرة والرافدين وامتدت لأقصى من ذلك  ، ولما زاد الظلم في ملوكها أرسل الله لهم هوداً وهو أول نبي عربي لأمة عربية من أوائل الأمم، وكما يصنف كتاب العرب فعاد تعود للذكر للعرب العاربة البائدة أي المتجذرة في العروبة و البائدة التي أنقطع ذكرها ونسبها ، مع انني أرى ان نسبها انتقل لتأسيس سبأ حيث انحصرت بداية التأسيس الثاني في مأرب وهو ظن يحتاج الى بحث ويقين .. قيل عن عاد  أنهم بنوا جنتهم  في صحراء عدن وهي في موقع  أبين اليوم ، أو في غيرها مكان...  المهم ، أن ما أعلمه وتعلمونه أن آثارها مطموسة مخفية ، و ارجو من خلال هذا المقال إلى الباحثين  ،أن هبوا واسعوا لفتح باب التنقيب والبحث لكشف حقيقة عاد الأولى، ارفعوا الشك واكشفوا اليقين ،

مع غياب شمس الدعوة وقبل الإسلام انتشرت عبادة الأوثان كان معبود حضرموت (( سين )) وكذا ((حول )) و له معبد يعرف بذي مذاب في حريضة حالياً ، لم يتم إماطة بقية الأسرار عنه وهو إله الضوء والآخر إله المطر  وهو غير إلمقه في سبأ إله القمر ، المهم  يقال والله أعلم أن الحضارم مازالوا يتلفظون جهلاً  ب(( ياسين )) للحماية من العين أو السحر ، وقولهم (( ياحول ياحول )) تيمناً بالمطر ، ولكن البعض يقول إنها دلالة على غير ذلك والله أعلم .!!... وفي البحث البسيط تجد اغلب المعبودات الوثنية في اليمن عموما وفي الشام وفي كثير من البلدان العربية  متشابهة بشكل كبير جدا ، مما يدعم فكرة أن هناك اصل واحد لها ، وهذا أيضا بحاجة لبحث آخر . ومن أغرب ماورد في كتب السير عن حضرموت وجود ما يعرف بكهف الكفار أو بئر الكفار في برهوت ، ويقال أن أرواح الكفار أو الظلمة تحجز هناك والله أعلم ،حتى أن البعض يعرف بموت كافر أو ظالم عندما يشتم رائحة كريهة تنبعث من تلك البئر . وهي اساطير

 

ولأنني معكم  في حضرموت فعلي أن أمر متشرفاً بذكر السيد أحمد المهاجر ، هو من البصرة بالعراق في أيام حكم بني العباس ، أحمد بن عيسى بن علي بن محمد العريضي البصري ، ينسب جده لبيت الحسين بن علي بن ابي طالب  ، رجل تميزت أسرته بالعلم،  جده علي بن محمد بسبب خرف أصابه في كبر سنه أدعى النبوة ، وقتل حينها ، الا انه لا تزر وزارة وزر أخرى ،إلا ان الخوف تبدى من الانتقام ، فانتقل السيد أحمد بن عيسى إلى الحجاز ، واستقر قليلاً ، ثم انتقل إلى صنعاء ولم يطب له المقام فيها ،ثم انتقل بعدها إلى تهامة وهكذا ظل متنقلاً بين الأقطار اليمنية حتى حط الرحال بالجبيل في دوعن ، أعجبته حضرموت الأرض ، وسكينة أهلها فطاب له المقام ، وسكن إلى ناسها ، ثم اشترى أرضاً بالحسيسة ، كان معه حينها ولده عبيد الله ، وتتلمذ كلاهما إلى علماء تريم ، اشتغلوا  بالتوعية و نشر الهداية ، وتزاوجوا في تلك البلاد ، كثر نسلهم وكان من أبناء عبيد الله ((علوي وجديد )) الا ان أبناء علوي انتشروا أكثر وتميزوا بالعلويين لتمييزهم عن جديد وغيرهم من أبناء عبيد الله .منهم وبجهودهم انتشرت الصوفية الشافعية ، صار لها مدارس في حضرموت . ظهرت سلبيات في تلك المرحلة ، لم تكن بالقبيلة بل عصبية بالطبقات الاجتماعية  (( الحبايب أو السادة ، أهل البيت – المشايخ وهم علية أهل المدينة والأعيان والعلماء من غير أهل البيت – التجر او التجار وهم أصحاب المال – العامة بقية الشعب )) بعد الاستقلال ،

 

حضرموت اليوم هي المحافظة الخامسة في الجمهورية اليمنية، كما دعمتها الوحدة ، اضرتها المركزية ،إلا أنني اعتبر أهم انجاز حدث في حضرموت هو تأسيس جامعة حضرموت 1996 ، هي ذلك الصرح الذي يمثل المنارة العلمية الأبرز والاهم ، وهي اليوم تمثل ابرز واهم جامعة يمنية في كل المستويات ، وهي اليوم ستكون الصرح الذي يصنع مستقبلا افضل لحضرموت ولمحيطها الأكبر اليمن ، ولمحيطها الاشمل الخليج والعالم العربي .   حضرموت اليوم بعد احداث حرب اليمن 2015 ، تنظر بحرص الى من حولها ، تنظر الى ابناءها ، تغيرت عاصمتها المكلا خاصة بعد ان  أعاد اكتشافها المحافظ الأسبق عبدالقادر هلال ، رجل دولة مميز ، له نظرة مميزة ، اكتشف بها المكلا ، اكتشف حضرموت من جديد ،  هذا الكشف ترتب عليه الكثير من التغيرات ، ابرزها حضرموت اليوم تفوق في عدد السكان 15 ضعف ما كانت عليه قبل 25 عاما ،  عودة أبناء واحفاد مهاجري الحضارم ، تحرك التجارة الداخلية و غيرها ،حتى احداث القاعدة في المكلا ، رغم صعوبتها الا انها صنعت تغيرا في الحركة التجارية ، حيث فتحت العيون على مواني المكلا والشحر . تحديات خدمت و وضعت  حضرموت امام تحد كبير في كل الجوانب ، هنا تحديدا برزت جوانب سلبية ، نبشت عنها اخطرها ، تأتي تباعا في أي  مجتمع ، وفي كل مرحلة نمو ،وتغير وعودة أفكار من خارجه ، حملها ابناءه ، في ظل الانفتاح يبدأ في إعادة غربلة اعرافه وتقاليده ، تلقائيا ستتشكل اعراف وتقاليد مستجدة ، قد تكون إيجابية ، الا ان منها الكثير من السلبية ، هي  ستغير في السمات الأبرز في القيم الحضرمية التي عرف بها الحضارم السابقون ، لن يمتلك احد مفتاح الحفاظ على القيم العليا ، لأننا لم نؤسس لتلك القيم العليا ، لم نؤسس لرؤية يؤمن بها الناس في المجتمع الحضرمي .الهجرات التي كانت تصدرها حضرموت ، ستعيد استقبال الأبناء والاحفاد ، سيحملون معهم ، قيم مجتمعات المهجر ، كما نعلم فالحضارم هم الجالية الأكثر هجرة وانتشاراً في العالم عربيا ، يليهم عربيا اللبنانية ، والمصرية ، وعالميا الصينية والهندية  . هم يحملون سماتهم وينقلون سمات غيرهم . لا اريد هنا التركيز على شيء ما ، الا ان هذا التأثير سيطال ميزة أخرى في مدن حضرموت  خاصة في مدن الوادي ، البعيدة عن الرطوبة ، مدن الطين المادة السحرية في البناء ،هي الصلصال ، والتي هي عبارة عن خليط من السيلكون والألمنيوم والهيدروجين ، هي من أفضل المواد العازلة للحرارة على الإطلاق تصلح للبرد والحر ، ومن هذه المادة أيضاً يصنع الطوب الأحمر الأنسب للبناء في المدن الرطبة الساحلية ، بيوت الصلصال الفخار يسكنها في العالم قرابة المليار نسمة تقريبا ليست في حضرموت حصرا الا انها بارزة هنا ، تجدها أيضا في مناطق شاسعة في افريقيا وجنوب أمريكا وغيرها  ، تتميز بأنها باردة صيفاً دافئة شتاء ، تتحمل أعتا أنواع الصدمات والزلازل والمتفجرات . اليوم تختفي في مقابل انتشار  مدن الاسمنت ، لتسطو وتبرز وتخفي معالما لم يكن ليتمكن احد من مئات السنين من ازالتها ، التوسع العمراني الناتج عن التوسع السكاني . لو اخذنا  المكلا بالأمس في الثمانينات لم يزد سكانها عن عشرات آلاف معدودة  ، اليوم تقفز الى عتبة السبعمئة الف نسمة ، توسع يبدو طبيعيا الا انه سيغير ملامح المكلا ، رويدا رويدا ،تتوسع لتشكل مكلا جديدة ، هذا ما سينتقل الى غيرها ، هذا العمران . فما  بال القيم والأعراف  ، أنها ستتطور ، تتغير ، تندمج ، وتندثر أخرى ، لا يهم ان يندثر السلبي، الا ان الأسوأ ان يندثر الإيجابي   ... لا اضيف الفكرة واضحة جلية ، لذا اليوم هناك من يتطلع في اليمن عموما وفي حضرموت خصوصا الى ان يرسم ملامح اليوم والمستقبل ، يجيب عن سؤال وماذا بعد ؟ نحن بحاجة لسفينة نوح التي ستنقذنا من الطوفان ، هل تنتهي الحرب وتعود العجلة للوراء ؟ هل نستعيد ما فقدناها ؟ ... هل نتحرك للأمام ؟ ... ام نقف بلا حراك !

لحظة ....

 حقيقة لا اقبل العودة للوراء ،ولا  استعادة مجد الإباء ،فعليا ابحث عن : ماذا بعد ؟ ،  اريد فعليا ان نصنع حاضرنا اليوم ، مجد نصنعه للأبناء، نشاركهم به ونرفع مكانة الارض والانسان . تجارب الماضي بإيجابياتها وسلبياتها منارة للتعلم ، ليست اطلالا للبكاء، ولا محلا ثابتا  للعودة  اليه ،  اذن هل نفكر معا  الان  ، ان نتشارك في  صناعة السفينة ، سفينة المستقبل .

سادتي الكرام لن ينته الحديث وإنما بدأ ، هذا موضوع للنقاش ، للتفكير ، للبحث ، لليوم وللغد، ولان حضرموت صنعت في جوف أبنائها سرا ، عبق صحرائها ، وحرارة شمسها ، ونسيم رطوبتها ، جعلت عقلهم يتحرك بطريقة مختلفة ، فصار منهم قادة وعلماء ، ومطلوبين للعدالة ، تناقض ام تصالح ، الا انه في النتيجة هناك شيء يحدث ويصنع وستسهم  به حضرموت لوطنها اليمن لوطنها العربي لوطنها الإسلامي لوطنها العالمي .  

 

محبتي الدائمة

#طيب_الله_ايامكم

أحمد مبارك بشير

 

مستشار الصحيفة*

مقالات الكاتب