في معنى الامتحان الشامل لطلاب الدكتوراه

يعد الامتحان الشامل أحد أهم المتطلبات الأكاديمية في الدراسات العليا ماجستير ودكتوراه،وهو من الاعراف والتقاليد الأكاديمية التي ترسخت في سياق نمو وتطور المؤسسة الأكاديمية الحديثة في أوروبا منذ قرابة ستة قرون. رغم اختلاف الشروط التاريخية والسياقات الثقافية لنشؤ ونمو وتطور مؤسسات التعليم الأكاديمية في المجتمعات المعاصرة إلا أن السمة العالمية للمؤسسة والمهنة الأكاديمية المستمدة من الخاصية الجوهرية لوحدة العلم والمعرفة العلمية قد جعلتها تحاكي بعضها بعضاً في مفاهيم وقيم الجودة ومعاييرها في مختلف نظم قياس وتقييم ضمان الاعتماد الأكاديمي عبر العالم ، بما يجعلنا نتحدث عن وجود فلسفة متكاملة للجودة والاعتماد الأكاديمي في مؤسسات التعليم العالي؛ فلسفة تنطوي على نسق مترابط ومتفاعل من المفاهيم والعناصر والعلاقات والقيم والأدوار والممارسات. الخ. والأكاديمية ليست صفة شكلية خارجية لمؤسسات التعليم الجامعي والمشتغلين ومنتسبيها كما هو شائع عندنا, بل شبكة واسعة من التقاليد والقيم والمبادئ والقواعد التي يجب ان يتمثلها داخليا ويلتزم بها فعليا في الافعال والأفكار والممارسات اليومية كل من ينتسب الى هذه المؤسسة ويحمل صفتها ( أكاديمي / اية ) ولا وجود لها خارج النسق الحي لممارسة المهنة الأكاديمية. وبحكم حداثة تجربتنا في ممارسة العملية الأكاديمية في معظم جامعاتنا العربية تظل الحاجة قائمة للتعرف على تجارب الآخرين وفهمها والاقتداء بها بما يتسق ومعايير الجودة الأكاديمية العالمية وقيم الاعتماد الأكاديمي، ومعايير الاعتماد ألأكاديمي هي المثل العليا والنماذج التي تم أختبارها تاريخياً بعدها أفضل الطرق لقياس جدارة ومستوى وصحة المؤسسات الجامعية (الأكاديمية) أي هي حسب فيلسوف العلم المعاصر توماس كون الباراديم المعياري لما ينبغي أن تكون عليه الجامعة .ومعايير قياس الجامعات وتقويمها تتسق في مجموعة متكاملة من القواعد والقوانين والقيم والأدوات والأساليب والعلاقات والخبرات والتقاليد والرموز الأكاديمية المؤسسة والمعنوية التي تتسم بها المهنة الأكاديمية والتي لا يكون المرء أكاديمياً. بدونها.

 

ولما كان الانسان بطبيعته هو كائن نفعي لا يهتم بالاشياء الا بقدر ما تهمه وتعنيه في حياته الفورية المباشرة، وأنا أحد الكائنات المقصودة هنا، إذ رغم مرور سنوات كثيرة على تجربتي الجامعية الا انني لم اتسأل على مدى عقدين من الزمن في جامعة عدن عن معنى الامتحان الشامل، ولم يكن يخطر لي على بال، حتى جاءت اللحظة الحاسمة التي جعلتني في مواجهة هذا التحدي الحيوي في كلية الآداب جامعة بغداد عام ٢٠٠٢م بعد استكمال برنامج الدراسة التمهيدية في الماجستير والدكتوراه واجترت امتحاناتها الأكاديمية الصارمة بصعوبة بالغة، حينها فقط بدأت اتسأل وزملائي عن ذلك الذي يسمونه امتحان شامل ؛ ما هو وما معناه وكيف سيكون ومالذي يميزه عن الامتحانات التي نعرفها وكيف تحسب درجاته وما طبيعة أسئلته وكيف يمكننا التحضير له ؟ ...الخ. ولازالت أتذكر حالة القلق التي أنتابتني حينها في مواجهة هذا التحدي الذي كنت أجهله! تداعت هذه الذكرى في ذهني منذ أيام حينما وردتني سلسلة طويلة من تساؤلات طلبتي وطلابي في برنامج الدكتوراه بقسمي الفلسفة والتاريخ بكلية الآداب جامعة عدن. إذ أحسست بحالة القلق التي تعتريهم من الامتحان الشامل. وقد لاحظت أن جامعتنا الفتية لا تمتلك تقاليد راسخة في هذا الشأن الأكاديمي الهام، ومن تجربتي المتواضعة في الامتحان الشامل في جامعة بغداد وهي تعد من أفضل الجامعات العربية واعرقها في محاكاة التجربة الأكاديمية البريطانية الشديدة الانضباط والصرامة. إذ أتذكر أن الامتحان الشامل يعد أهم مرحلة في إجتياز الطالب عتبة الدخول الى بوابة العلم والمعرفة. ويأتي بعد استكمال الامتحانات الفصلية والسنوية في الدراسة التمهيدية بمدة كافية . ويشترط في طالب الدكتوراه أجتياز الأمتحان الشامل بمعدل لا يقل عن (70%) قبل تسجيل أطروحته .إما معنى وكيفية الامتحان الشامل وطبيعة أسئلته؟ فكما اتذكر في جامعة بغداد أن الامتحان الشامل يتم عبر المراحل الآتية: 


اولا: اختبار تحريري في التخصص الرئيسي.
ثانيا: اختبار تحريري في التخصص الفرعي.ثالثا: اختبار شفوي. وبعض الجامعات والأقسام تضيف مرحلة رابعة ( مثل اختبار متخصص في البحث العلمي ومناهجه ومهاراته).إما بالنسبة لطبيعة الأسئلة فهي عدة أسئلة في كل اختبار قد يشمل السؤال الواحد عدة أجزاء، تتناول كل ما له علاقة بالتخصص العام والدقيق.يضع الأسئلة لجنة من أعضاء هيئة التدريس في القسم، وقد يستعان بأعضاء هيئة تدريس من أقسام أخرى في حال وجود تخصص يستدعي ذلك.ويكون تصحيح الملفات بطريقة سرية بعد أن تخفى وترمز أسماء الطلاب يقوم مجموعة من أعضاء هيئة التدريس بالقسم بتصحيحه (ليس بالضرورة أن يكونوا من أعضاء لجنة الاختبار الشامل ممن وضعوا الأسئلة)، وكل سؤال يقوم بتصحيحه أكثر من عضو من هيئة التدريس مختلف، ثم يحسب المعدل وفقًا لآلية خاصة.ويتم توزيع درجاته ال٨٠٪ كالتالي: الاختبار العام ٣٠ الاختبار التخصصي ٥٠ المقابلة ٢٠. ويتم احتساب الدرجات على كل سؤال وفقًا لمعدل الدرجة
الامتحان الشامل كمحطة معرفية تحتم على الطالب أن يستثمر مروره عليها وينهل منها ما يكمل مسيرته العلمية كمتخصص متمكن في المجال، ولعل أبزر ما يميز هذه المحطة العلمية أنها بمثابة الحلقة التي يتم فيها ربط جميع ما تم تلقيه من معلومات ومعارف خلال دراسة المقررات سواء في مرحلة الماجستير أو الدكتوراه وأيضًا الخبرات الميدانية التي مر بها.

 

كما يساعد المذاكرة والاستعداد لهذا الاختبار في توضيح العلاقات بين الكثير من المجالات المعرفية التي قد كان يظن أنها منفصلة ولا مجال لدمجها، ويبين الفروق والاختلافات وغيرها من التفاصيل الدقيقة والهامة، ويساهم أيضًا في بناء وتأسيس النظرة التحليلية الناقدة للواقع وتوسيع الأفق ورسم اتجاهات الانطلاق نحو تطوير المستقبل عبر منتجات علمية وفكرية مختلفة.وللمذاكرة الجماعية التي قد ترافق الاستعداد للاختبار دورها في الإلمام بمعلومات ووجهات نظر تجاه القضايا قد لا يتعرف عليها الطالب لو لم يخضع لضغط هذا الاختبار، ويحتاج للتعاون مع زملائه وأقرانه من نفس التخصص والمجال، كما أن هناك نقطة تعتبر الأهم، وهي أن الاستعداد لهذا الاختبار فرصة ذهبية للإبحار في مجالات التخصص وتحديد الميول واختيار عنوان الرسالة لمن لم يختره أثناء دراسة المقررات، فغالبًا ينصح الأساتذة والمختصون طلابهم بعدم الاستعجال في اختيار عنوان لأطروحة الدكتوراه إلى ما بعد الاختبار الشامل، حيث يتأكد اطلاع الطالب على الكثير من الفروع والتفاصيل العلمية الخاصة بتخصصه، والتي ربما يجد فيها ما يناسب ميوله وتفكيره. والامتحان الشامل من اسمه شامل لشموله جميع المقررات والأطر النظرية للتخصص المعني الذي يجب على طالب الدكتوراه أن يكون على المام كامل واضحا فيها. ويهدف الامتحان إلى تقويم الطالب تقويمًا شاملاً وتحديد أهليته للانتقال الى مرحلة الخبير العالم المتخصص في مجال العلم المعني إذ ينتقل بعده الطالب أو الطالبة من مسمى طالب دكتوراه إلى مرشح دكتوراه ويبدأ مرحلة الرسالة.يركز على قياس جانبين هامين هما الجانب المعرفي (ويهدف إلى قياس قدرة الطلبة عمقًا وشمولًا على استيعاب موضوعات التخصص الرئيس والتخصصات الفرعية المساندة)، والجانب التحليلي (ويهدف إلى قياس قدرة الطلبة على التحليل وإحداث التكامل بين المفاهيم والاستنتاج، واقتراح الحلول المناسبة لما يعرض عليهم من أسئلة). ويعد اجتياز الامتحان شرط ضروري لتسجيل أطروحة الدكتوراه بينما عدم تمكن الطالب من اجتياز الاختبار حتى بعد الفرصة الثانية يتسبب في طي قيده وإنهاء مشواره العلمي. وعلى طالب الدكتوراه أن يكون على استعداد كامل لمواجهة استحقاق الامتحان الشامل استعدادًا جسدياً نفسيًا ومعرفياً وذهنيًا بمشاعر إيجابية حافزة. ويفترض أن يكون الطالب مستعدا للجواب على أي سؤال محتمل من حقل تخصصه حتى وأن لم يدرسه في السنة التحضيرية، مثلا: إذا كنت طالباً للتاريخ القديم فمن المفترض أن تكون مهيئا للجواب عن أي سؤال عن الحضارات القديمة! وإذا كنت طالبا في الفلسفة فلا عذر لك من معرفة وفهم تاريخ الافكار الفلسفية برمته. واتذكر أننا في الامتحان الشامل في جامعة بغداد جرى امتحننا في مكتبة القسم وهي بالمناسبة مكتبة أكبر من مكتبة كليتنا الفتية، امتحننا من الثامنة صباحاً حتى الواحدة ظهرا، وكان عدد الأسئلة ستة اسئلة ذات طبيعة شمولية منها: تتبع أثر فلسفة الأخلاق اليونانية في الفلسفة العربية الإسلامية؟ وسؤال آخر هو : شهدت فلسفة العلم تحولات منهجية ونظرية حاسمة في القرن العشرين؛ فسر أسباب وطبيعة تلك التحولات وتحدث عن أهم الاتجاهات التي أفرزتها في فلسفة العلم المعاصر؟ وهكذا يشتمل كل سؤال من اسئلة الامتحان الشامل على كل المادة الدراسية المستنتجة وغير المستنهجة في التخصص المعني. والعبرة في الامتحان الشامل هي اختبار القدرة المعرفية المنهجية والنظرية لدى طالب الدكتوراه في مقاربته للسؤال بطريقة نقدية بما يثبت حقاً وفعلاً أنه بات قادرًا على التفكير والكتابة في قضايا وموضوعات تخصصه العلمي بوصفه عالماً ومفكراً متسقلاً يعتمد على عقله الخاص وليس الكتب والمراجع والملازم والمحاضرات التي قراءها اثناء دراسته. أنه امتحانا لما بقى في الرأس وليس لما حفظه من الكراس! 


ختاما : نقول أن الامتحان الشامل هو أنثربولوجيا ثقافة طالب العلم التي هي بعد كل حساب ما بقي بعد نسيان كل شيء. تلك صورة مجملة لمعنى الامتحان الشامل ويمكنكم معرفة المزيد من خلال القراءة والاطلاع في الشبكة العنكبوتية المتاحة لمن أراد في كل وقت من الأوقات. مع تمنياتي لطلابنا الاعزاء وطالباتنا العزيزات بالتوفيق والنجاح في امتحاناتهم الشاملة.

 

مقالات الكاتب