التجارة أفضل علاج للتحيز

هناك بلدان كثيرة تعرض بالفعل أشكالا مختلفة من التأمين ضد البطالة، التي يمكن أن تقترن بأدوات أخرى. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، نجد أن المجال يتسع لتقديم إعانات الدخل المؤقتة إلى أن يتسنى للعاملين تعزيز مهاراتهم. والمجال يتسع أيضا لزيادة حركية العمالة بتقديم مساعدات إعادة التوطين والمزايا التقاعدية القابلة للنقل.
وفي الوقت نفسه، بإمكان معظم البلدان المساهمة بدور أكبر في تحسين برامج تدريب العمالة وتوسيع نطاقها. فتجارب كندا والسويد مثلا تبين أن التدريب على رأس العمل أكثر فعالية من التعلم في الفصول الدراسية.
وسياسات سوق العمل الجيدة ضرورية – لكنها غير كافية.
وينبغي أن تعمل كل البلدان على إعادة ابتكار نظمها التعليمية لمواكبة العصر الرقمي، وهذا لا يقتصر على إضافة بضعة دروس جديدة في الترميز، لكنه يتعلق بتشجيع التفكير النقدي، وحل المشكلات على نحو مستقل، والتعلم مدى الحياة الذي يساعد الناس على التكيف مع التغيير. إن الأمر يتعلق بالاستثمار في رأس المال البشري.
كيف إذن يستطيع الصندوق المساعدة في هذا الصدد؟
على المستوى العالمي، نحن نقوم بتحليل أسعار الصرف ومتابعة الاختلالات الاقتصادية العالمية.
وعلى مستوى كل بلد على حدة، نعمل مع كل بلداننا الأعضاء البالغ عددها 189 بلدا بشأن السياسات لمساعدتها على إلغاء الحواجز التجارية والاستثمارية – مع تشجيع زيادة انفتاح الاقتصادات، حيث يستطيع القطاع الخاص أن يزدهر ويوجد فرص العمل.
ونسعى جاهدين كل يوم لمساعدة بلداننا الأعضاء على الاستعداد لعصر التجارة الجديد، ونؤمن بأن تحسين التجارة يقتضي أن تكون أكثر إنتاجية، وأكثر ارتكازا على الخدمات، وأكثر احتوائية – حتى يجني الجميع ثمارها.
ولتحقيق هذه الأهداف، يتعين كذلك أن تقوم التجارة على جهود أكثر تعاونية على المستوى الدولي، وأكثر تركيزا على تعددية الأطراف، وهذه هي الخطوة الأخيرة التي تمكننا من بناء جسور اقتصادية أفضل.
 
تطويع النظام التجاري متعدد الأطراف
على مدار السبعين عاما الماضية، ظلت بلدان العالم تعمل معا لإيجاد نظام متميز حقا – نظام للقواعد والمسؤوليات المشتركة حقق تحولا كبيرا في عالم اليوم.
وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية وحدها، ظل هذا النظام متعدد الأطراف بالغ الأثر في انتشال مئات الملايين من براثن الفقر، مع تعزيز مستويات الدخل والمعيشة في كل البلدان.
واليوم أمام الحكومات فرصة للبناء على ما تم تحقيقه من تقدم حتى الآن، وتطويع هذا النظام لكي يوائم عصر التجارة الجديد.
وبعبارة أخرى، حتى مع إصلاح الجسور الاقتصادية لا بد لنا من الالتزام بالأساسيات الهندسية.
وهذا يعني الابتعاد تماما عن الحمائية؛ لأن قيود الاستيراد تلحق الضرر بالجميع، خاصة المستهلكين الفقراء.
ويعني أيضا القضاء على الممارسات التجارية غير العادلة – وضمان تكافؤ الفرص؛ وهو يعني ممارسة التجارة بناء على القواعد المستقرة – قواعد منظمة التجارة العالمية التي اتفق عليها كل البلدان الأعضاء الـ164؛ ويعني أيضا الانفتاح على أي أفكار جديدة. ماذا أعني بهذا؟
لقد شهدنا بالفعل اتفاقيات جديدة أو موسعة لمنظمة التجارة العالمية في السنوات الأخيرة – بما فيها اتفاقيات بشأن المشتريات الحكومية، وتكنولوجيا المعلومات، وتيسير التجارة.
ولكن هناك حكومات كثيرة تعاني قضايا مهمة لا تدخل حاليا في صلب قواعد منظمة التجارة العالمية. ومن هذه القضايا أشكال الدعم الحكومي المختلفة، والقيود على تدفقات البيانات، وحماية الملكية الفكرية.
ولمعالجة هذه القضايا، يمكننا استخدام اتفاقيات التجارة "محدودة الأطراف"؛ أي الصفقات بين البلدان ذات الفكر المتماثل، التي توافق على العمل في إطار منظمة التجارة العالمية.
ويمكن كذلك التفاوض بشأن اتفاقيات جديدة في منظمة التجارة العالمية في التجارة الإلكترونية والخدمات الرقمية.
وفي هذه القضايا، يمكن أن نستلهم العزيمة من شراكة جديدة وشاملة وتحررية هي "الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادئ"– المعروفة باسم شراكة المحيط الهادئ – 11. فلأول مرة في اتفاقية للتجارة الموسعة، يضمن بلدان هذه الشراكة حرية تدفق البيانات عبر الحدود لموردي الخدمات والمستثمرين.
وعلى النسق نفسه، ينبغي تصميم صفقات التجارة الجديدة في القرن الـ21 بحيث تضمن تدفق البيانات مع توفير الحماية لخصوصية البيانات، وتشجيع الأمن الإلكتروني، وضمان حصول جهات التنظيم المالي على البيانات عند اللزوم دون خنق الابتكار.
وينبغي كذلك أن تراعي هذه الصفقات الجديدة مشاغل العمالة والبيئة. ولن يكون بالإمكان التصدي لهذه التحديات إلا في سياق العمل متعدد الأطراف؛ حيث تُحترم القواعد المستقرة، وتعمل البلدان على أساس الشراكة، ويلتزم الجميع بتوخي العدالة، وتكون البلدان مساءلة أمام بعضها، ويمكن النظر في النزاعات وتسويتها بكفاءة.
وهنا، اسمحوا لي بأن أختتم حديثي بهذه العبارات التي قالها الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو منذ أكثر من 200 عام:
"التجارة أفضل علاج للتحيز. هناك قاعدة عامة تقريبا أنه أينما نشأت المواطنة السليمة، تقوم التجارة، وحيثما توجد التجارة، تنشأ المواطنة السليمة. فالتجارة بطبيعتها تؤدي إلى تحقيق السلام".
ويصدق هذا الأمر حتى الآن على الزمن الحالي، فمن خلال بناء الجسور الاقتصادية الجديدة، وتحديد ملامح عصر التجارة الجديد، وإزالة الحواجز، سنتمكن من تعزيز إقامة مجتمعات أكثر رخاء وأكثر سلاما. 

مقالات الكاتب