مستقبل «بريتون وودز» وربطه بالاقتصاد العالمي

مرت 75 عاما على إنشاء مؤسسات "بريتون وودز"، وأعلم أن كريستين لاجارد كانت تتطلع لإلقاء كلمة، لكن الصندوق يمر بمرحلة انتقالية مرة أخرى، ولحسن الحظ أننا معتادون على ذلك. ومن الموضوعات الأساسية في تعليقاتي أن الصندوق مؤسسة بنيت لتتكيف مع التغيير. ولا تقلقوا، فتكريما لكريستين، سأحرص على الاقتباس من واحدة أو اثنتين من الشخصيات التاريخية.
إن مؤسسات "بريتون وودز"، رغم أن وراءها 75 عاما من التاريخ، تقدمت في العمر وهي محتفظة بحيويتها، ولا يزال تعاوننا قويا مثلما كان دائما، وأود توجيه الشكر إلى ديفيد مالباس وروبرتو أزيفيدو على استمرار علاقاتنا الممتازة.
وعلى ذِكر الشراكات الشهيرة، فلعل من شاهدوا منكم آخر عدد من مجلة "التمويل والتنمية" الفصلية التي يصدرها الصندوق قد لاحظوا حوار لاجارد مع جون مينارد كينز، وقد سره أن الصندوق استطاع التكيف بنجاح مع كثير من التحديات على مدار الأعوام، كما سره على الأخص استمرار التزامنا التام بالسعي إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي في سياق متعدد الأطراف وقائم على القواعد.
فماذا لو استطعنا السفر في آلة للزمن – وقد نقترضها من إتش جي ويلز صديق كينز، لنقفز إلى ما بعد 25 أو 50 أو حتى 75 عاما من الآن؟ ما الذي يمكن أن يكون عليه شكل العالم والصندوق آنذاك؟
آمل أن تكون ملامحنا لا تزال واضحة بالنسبة إلى اللورد كينز في ذلك الوقت أيضا، باعتبارنا نشجع النمو والاستقرار العالميين ونتكيف مع احتياجات بلداننا الأعضاء. وهذه الرحلة عبر الزمن المقبل هي ما أود مناقشته معكم اليوم، لكن في البداية، دعونا نلقِ نظرة وجيزة على أحداث الماضي.
كان مهندسو "بريتون وودز" متأثرين تأثرا عميقا بأحداث ما بين الحربين العالميتين، حين انهار العمل التعددي والنظام الدولي الليبرالي تحت وطأة الحمائية وضعف كفاءة قاعدة الذهب والتخفيض التنافسي للعملات.
وأدى تداعي التجارة العالمية إلى تعميق "الكساد الكبير" وأفضى في النهاية إلى إشعال نيران الفاشية والشيوعية والحرب، لكن في أعقاب تلك الأحداث، تم استخلاص دروس مستفادة، فبدأ للمرة الأولى إدراك مدى الترابط بين المصالح الاقتصادية الوطنية والعالمية. وكان المؤسسون في "بريتون وودز" على قناعة أكيدة بضرورة التنمية الاقتصادية والاستقرار المالي العالمي كمتطلبات أساسية لإرساء السلام.
وبكلمات الملكة إليزابيث الثانية، لقد "بنوا ملتقى للمؤسسات الدولية يضمن عدم تكرار الويلات التي جلبها الصراع من قبل"، كانت تلك هي لحظة التعددية الأولى.
وكلنا يعرف النتائج، مكاسب هائلة في الرخاء الإنساني، متوسط العمر المتوقع، والتحصيل العلمي، ووفيات الأطفال والأمهات. وارتفع نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي العالمي بأكثر من خمسة أضعاف عن عام 1945، وتحرر أكثر من مليار نسمة من أصفاد الفقر، وبدأ مليارات من البشر يحصدون المزايا المشتركة التي أثمرتها التجارة.
وأنا فخور بأني أمضيت سنوات طويلة من حياتي العملية في المؤسسة صاحبة الدور المحوري في هذه القصة.
ورغم مرور سنوات طويلة، لم يكن هناك قط "بريتون وودز 2"، لكننا كمؤسسة اختلفنا كثيرا عما كنا عليه في وجود الآباء المؤسسين. فكيف تحقق هذا؟ تحقق بفضل تكيفنا المستمر مع الظروف المتغيرة.
إن اللورد كينز كانت ستسره رؤية الصندوق وقد تحول من نظام "بريتون وودز" القائم على أسعار الصرف الثابتة إلى عصر الأسعار المرنة.
وكيف عالجنا أزمات أمريكا اللاتينية، بدءا من الفترة التي تولى فيها القيادة جاك دو لا روزيار.
ثم كيف ساعدنا الاقتصادات المتحولة الخارجة من مرحلة الشيوعية ومكنا كثيرا منها من الانضمام في نهاية المطاف إلى عضوية الصندوق؛ وكيف عالجنا ما أسماه ميشيل كامدوسو بأزمات القرن الـ21، تلك التي نشأت عن فورة تدفقات رؤوس الأموال العابرة للحدود.
وإذ نتطلع إلى الـ75 عاما المقبل، سيكون على الصندوق أن يواصل التكيف مع المستجدات، وهو ماض على هذا المسار بالفعل.
لننظر الآن فيما قد يواجهنا في العقود المقبلة، أولا، كيف سيؤثر تحول القوة الاقتصادية والمالية في دور الصندوق، ثانيا، كيف سيؤدي التغير التكنولوجي إلى إحداث تحول في الاقتصادات، فيوفر فرصا جديدة وينشئ تحديات أمام السياسات، وهو ما يشمل مجال الخدمات المالية، ثالثا، كيف ستكون التهديدات الجديدة التي يتعرض لها العمل التعددي بمنزلة اختبار لمدى استمرار الحاجة إلى دور مؤسسات "بريتون وودز".

 

مقالات الكاتب