التنمية والموارد البشرية .. والمنافسة العالمية

عندما ننظر إلى المستقبل ونريده أفضل من اليوم، يكون الأمر من أجل من؟ من أجل الإنسان، بل ومن أجل الأجيال المتجددة بالطبع. وعندما نبحث في تحقيق ذلك، يكون علينا أن نتطلع إلى مسؤولية من؟ نتطلع إلى مسؤولية الإنسان، بل ومسؤولية الأجيال المتجددة أيضا.

من أجل الإنسان نريد حياة أفضل في المستقبل، وبيد الإنسان يمكن لهذه الحياة الأفضل أن تتحقق. هذه هي سنة الحياة عبر العصور، فالأمم التي استطاعت تحقيق حياة أفضل لأبنائها هي تلك التي قامت بتعزيز قدراتهم، وتفعيل نشاطاتهم، ورفع قيمة ما يقدمونه من مخرجات، ضمن إطار متكامل، حصيلته مسيرة تحقق التنمية وتدعم استدامتها.

وقبل أن نستطرد في مناقشة موضوع التنمية والموارد البشرية، يجب توضيح المعنى المتداول لمصطلح "الموارد البشرية" Human Resources، وأهميته في المجتمعات. يقول التعريف المتداول للموارد البشرية "إنهم العاملون، أو القادرون على العمل، في مجالات الأعمال المختلفة، ويمثل هؤلاء، بما يمتلكون من قدرات ومهارات، الرصيد الجوهري الذي تستند هذه المجالات إليه".

تمثل الموارد البشرية إذا القوى العاملة أو القادرة على العمل في المجتمع وتتمتع بصفتين أساسيتين. تكمن الصفة الأولى في حقيقة أن قيمة الموارد البشرية في أي مجتمع ترتبط بقدرات أفرادها ومهاراتهم من جهة، وبتفعيل هذه القدرات والمهارات في سوق العمل من جهة أخرى. وتتمثل الصفة الثانية في حقيقة أخرى هي أن الموارد البشرية هي القطاع القادر على الإنتاج من أبناء المجتمع، وعلى عاتقه تقع مسؤولية الإنفاق على باقي السكان من صغار السن وربات البيوت وغيرهم.

وللموارد البشرية دورة حياة تشمل مراحل متواصلة تبدأ بالإعداد والتمكين في سن مبكرة، ثم تنتقل إلى العمل والإنتاج، لتصل إلى ذروتها في التقاعد، لتتجدد الدورة، بعد ذلك، جيلا بعد آخر.

ومع التطور المعرفي المتسارع في هذا العصر، وأثره في العمل والإنتاج، تختلف متطلبات إعداد وتمكين الموارد البشرية مع اختلاف متطلبات العمل والإنتاج. ولا بد من مواكبة هذا التطور، والاستجابة لمعطياته، بل السعي أيضا إلى الإسهام فيها. وتشمل هذه الاستجابة تطوير كل من جانب الإعداد والتمكين عبر التعليم والتدريب من أجل قيمة كامنة أكبر لهذه الموارد من جهة، وجانب إيجاد الوظائف والأعمال المناسبة التي تستفيد من هذه القيمة من جهة أخرى. وسنتطرق إلى مسألة مواكبة متطلبات العصر في مقال مقبل، بمشيئة الله، حول "تمكين ذكاء الناشئة وتحدي الذكاء الاصطناعي".

ونعود إلى العوامل المرتبطة بالتنمية والموارد البشرية. فإذا أردنا أن نرسم صورة تلخص مسألة عمل الإنسان، وتطوير حياته نحو الأفضل، فلعلنا نبدأ، كخطوة أولى، برسم صورة "اليد الخفية" Invisible Hand التي طرحها، في القرن الـ18، الاقتصادي الشهير آدم سميث Adam Smith.

تقدم هذه الصورة مجتمعا إنسانيا يعمل أبناؤه في مهن مختلفة، ويقدم صاحب كل مهنة خدماته للجميع في إطار مهنته، ليتلقى بالمقابل خدمات يحتاج إليها من الجميع في إطار مهنهم المختلفة الأخرى. فالتخصص في مثل هذا المجتمع، وسيلة للتميز في مجال معين، تتوزع خيراته على الجميع، لتجلب في المقابل، لصاحب التخصص، احتياجاته من التخصصات الأخرى. وهكذا تعمل اليد الخفية على تحقيق متطلبات الجميع، عبر تعاون الجميع.

صورة اليد الخفية أساسية في التعبير عن حياة المجتمعات، لكنها تفتقر إلى أخذ عوامل كثيرة أخرى في الحسبان. من هذه العوامل مثلا المنافسة والسباق على التطوير في التخصص الواحد، ضمن المجتمع الواحد، وجاذبية الأفضل في استقطاب أصحاب التخصصات الأخرى، فضلا أيضا عن إيجاد أعمال وتخصصات جديدة غير مسبوقة وجاذبة للجميع.

وهناك أيضا عامل الأمن والأمان، ضمن المجتمع الواحد، والحماية من تداعيات الخلافات والاختلافات. ويضاف إلى ذلك عامل انفتاح المجتمعات على بعضها بعضا، وتوسيع دوائر التنافس والأمن، لتصل إلى مستوى الدول، بل والعالم بأسره. بهذه العوامل تتعقد صورة اليد الخفية، وتبرز صورة أوسع للتنمية وعمل الموارد البشرية تعبر، ليس فقط عن مجتمع بعينه، بل عن تواصل الأمم والمجتمعات، وتنافسها من جهة، وتعاونها أيضا من جهة أخرى، في مجالات التنمية المختلفة.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أثر العالم السيبراني ومعطياته في صورة التنمية والعمل سابقة الذكر. فالبنية الأساسية لهذا العالم، الممثلة في الإنترنت، أتاحت تطبيقات كثيرة، في مختلف مجالات الحياة، لتفرز بذلك العالم السيبراني، الداعم المعلوماتي للعالم الفعلي في هذا العصر. يخزن العالم السيبراني المعلومات إلكترونيا بكميات هائلة، ويعالجها تبعا لمتطلبات الأعمال المختلفة، وينقلها حول العالم صورة أو صوتا أو نصوصا بلمح البصر. ولهذه المزايا أثر مهم يشمل مختلف مجالات الحياة، لأن المعلومات عامل رئيس مشترك في شتى نشاطات الإنسان وأعماله المختلفة.

وهكذا بات العالم السيبراني جزءا من حياة كل مؤسسة وكل فرد. كثير من نشاطات التعليم والتدريب والتمكين التي يحتاج إليها إعداد الموارد البشرية يمكن أن تتم من خلاله، وكذلك كثير من الأعمال المرتبطة بالإنتاج والتجارة والتسويق وتقديم الخدمات المختلفة. وتزداد أهمية هذا العالم مع تزايد الإمكانات وتوسع الخدمات التي يتمتع بها، مثل إمكانات الذكاء الاصطناعي المتنامية وتطبيقاتها في مختلف المجالات.

لعل المنافسة في إعداد الموارد البشرية وتمكينها، وفي تفعيل تشغيلها والاستفادة منها، في مختلف المجالات، وعلى مستوى العالم، هي المحرك الرئيس للتنمية والتطوير نحو الأفضل. ولا غرابة، على هذا الأساس، أن برنامج تنمية القدرات البشرية في المملكة وضع هدفا لهذه التنمية يقضي بإعداد المواطن القادر على المنافسة عالميا، وليس محليا فقط.

ولا شك أن على جميع القطاعات أن تضع نفسها في بيئة هذه المنافسة العالمية. ولا تنفي المنافسة، بالطبع، مسألة التعاون والشراكة في المعرفة والجهد والإنتاج مع جهات أخرى، بل ترحب بها لأنها يمكن أن تعزز القدرات المطلوبة للمنافسة. ولا بد في التوجه نحو المنافسة من الاهتمام بجودة الأعمال والمخرجات، والتركيز على متطلبات الأداء التي تحقق هذه الجودة. فالأداء يجب أن يتمتع بالفاعلية في تحقيق الطموحات، والكفاءة في الحد من التكاليف دون التأثير في الفاعلية، إضافة إلى الرشاقة في الاستجابة للمتغيرات.

المصدر:

“ نقلا عن موقع صحيفة الاقتصادية السعودية ”