هجرة رأس المال الوطني من اليمن للخارج

■ لم يكن في اليمن قبل ثورتي سبتمبر وأكتوبر رجال مال وأعمال بقدرات عالية. إذ كان أصحاب رأس المال اليمنيين  يؤسسون استثماراتهم في خارج اليمن. فقد كانت البنية الأساسية للاستثمار في اليمن غير متوفرة والبيئة الاستثمارية غير ملائمة وبالتالي فقد كان رواد الطموح لبناء قدرات مالية تمكنهم من الاستثمار وتراكم ثرواتهم يتوجهون نحو مستعمرة عدن ومنها للخارج وهناك يكونون قدر من قدرات  التمكين لاستغلال ما هو متاح لهم  ثم يعودون لمحافظة عدن والبحث عن فرص متاحة للاستثمار لاعتبار أن عدن حينذاك كانت  تعتبر مركزا تجاريا دوليا برعاية المستعمر البريطاني . وعندما قامت ثورة سبتمبر بدأت بعض رؤس الأموال المستوطنة في عدن بالانتقال إلى شمال اليمن وبداية تشكل رأس المال الوطني وتوسعه ليشمل اليمن كلها. ومع اندلاع ثورة أكتوبر فقد اضطربت الأوضاع الأمنية في عدن الأمر الذي دفع  بالمستثمرين اليمنيين المستوطنين في عدن من نقل معظم استثماراتهم إلى تعز والحديدة ثم الانتشار لبقية المحافظات اليمنية. وعندما خرج المستعمر البريطاني من عدن في عام 1967  اضطربت الأوضاع الأمنية أكثر وتشكل نظام حكم وطني معادي لرأس المال ظهر  من خلال ما اسمي بقانون التأميم وغيره من القوانين،  الأمر الذي دفع برجال  المال والأعمال  اليمنيين  من نقل قدراتهم الاستثمارية لشمال اليمن وللخارج. 


ومع تشكل نظامين في اليمن : أحدهما في الشمال  تحت تأثير التوجه الرأسمالي وآخر في عدن تحت تأثير التوجه الاشتراكي فقد بدأت الاستثمارات الوطنية في شمال اليمن تتنامى بصورة أسرع مما هي عليه في عدن مع استمرار تتابع هجرة رأس المال الوطني للخارج نظرا لعوامل عدم الاستقرار السياسي. وبالرغم من ذلك فقد ظل رأس المال الوطني ينمو بصورة مستمرة  إلى أن تحققت الوحدة اليمنية في عام 1990 وتشكل وضعا جديدا  للدولة اليمنية  بموارد اقتصادية متنامية اهمها النفط والغاز تسارعت وتيرة نمو الإستثمارات الوطنية والأجنبية وأخذت عوامل مناخ الاستثمار تتحسن شيئآ فشيئا بالرغم من حرب عام 1994 والحروب  الداخلية الأخرى . وبدء ذلك واضحا من خلال استيطان استثمارات وطنية متعددة،  شكلت قدرا  كبيرا  من مستويات النهوض الاقتصادي لليمن. ومع اندلاع الحرب الداخلية المتواصلة منذ عام 2015 وحتى الآن،  فقد انهارت الدولة وضربت بنيتها  التحتية  وتصاعدت المواجهات المسلحة،  الأمر الذي أدى الى تصاعد هجرة  أصحاب رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية  للخارج وبداية لظهور ملحوظ  لهجرة رأس المال الوطني بصورة حادة.

ومع التدهور الاقتصادي المستمر وانهيار الجهاز المصرفي وتعطل الدورة الاقتصادية وغياب الأمل في استعادة الدولة وإعادة بنائها فقد أخذ  رأس المال اليمني  يستوطن  بدول مختلفة،  الأمر الذي أدى إلى أن  رجال المال والأعمال اليمنيين  يعملون على  تأسيس مواطن جديدة لاستثماراتهم  في الخارج واعتبار مواقع  استيطان هذه الاستثمارات مراكز رئيسية لاستثماراتهم بدلا عن اليمن. وبالتالي فقد أصبح من الصعب جدا لرأس المال الوطني العودة للداخل،  ومن شأن ذلك تعقيد عملية  إعادة بناء الدولة اليمنية باسس اقتصادية متينة وراسخة وبالتالي تعميق عوامل الفقر والتخلف.

وبناء على ما سبق يبرز سؤال أساسي يتعلق بتحديد أسباب هجرة رأس المال الوطني للخارج بصورة محددة وأكثر وضوحا ، حتى تتمكن  اية  سلطة قادمة من  مواجهة هذه المشكلة ،  وهنا نحاول استنباط تلك الأسباب بصورة مبسطة تمكن من وضع المعالجات الواقعية المناسبة. وذلك كما يلي :

اولا : ليكن معلوما بأن عوامل البيئة الاستثمارية المناسبة لجذب الاستثمارات تتكون بصورة عامة من أربعة عوامل رئيسية،  تشمل الجوانب التالية :
- البيئة السياسية والقانونية 
- البيئة الاجتماعية. 
- البيئة اقتصادية. 
- البيئة التكنولوجية.


ويعني ذلك أن اية بيئة استثمارية تتطلب : وضع سياسي مستقر وقوانين مشجعة للاستثمار،  وضع اجتماعي غير معادي للاستثمارات وتركيبة اجتماعية متحضرة،  وضع اقتصادي مستقر مقاوم للتقلبات الاقتصادية وبيئة تكنولوجية معايشة لما وصل إليه التطور التقني المعاصر.

 

وبالنظر إلى هذه العوامل سنلاحظ بأن عوامل  البيئة الاستثمارية في اليمن غير متوفرة بصورة كافية،  كما أن استمرار الحرب منذ العام 2015،  قد عقد أوضاع البيئة الاستثمارية العامة وخلق وضعا  طاردا  للاستثمارات وبالتالي تصاعدت  هجرة رأس المال الوطني. ومن أبرز عوامل الطرد والهجرة ،  يمكن الإشارة إلى ما يلي :

اولا : عدم استقرار الوضع السياسي والأمني وغياب العمل بالقوانين والأنظمة وتشظي الدولة وقطع الطرقات الرئيسية المعبدة بين المحافظات.  

ثانيا : انهيار الوضع الاقتصادي. إذ أن الجهاز المصرفي منهار ومنقسم وهناك سلطتان نقديتان متضاربتان وعملة منقسمة ومتباينة القيمة ومنهارة أمام العملات الأجنبية وفاقدة لقيمتها الشرائية ومتهالكة وغير مقبولة التبادل في جميع محافظات الدولة،  الأمر الذي أدى إلى اعتماد  الريال السعودي والدولار الأمريكي بدلا عن الريال اليمني بطبعتيه القديمة والجديدة في عمليات التبادل. وأصبحت العملة الوطنية عبارة عن شكل بلا قيمة موثوق بها عند التبادل. كما أن البنية التحتية للاقتصاد الوطني منهارة بصورة حادة.

ثالثا: غياب حاد لسلطات الدولة وبالتالي اضطراب الوضع الاجتماعي والأمني وانتشار لصور الفساد بصورة عميقة،  غير مسبوقة.

رابعا : مع استمرار الحرب ودخول اليمن في أطر الصراعات الإقليمية والدولية تمزقت وحدة الأرض وشل قطاعي الصادرات والواردات وبالتالي  فقد تخلفت البلد  من النواحي التكنولوجية ولم يعد هناك أي معاصرة للتطور التكنولوجي الذي يشهده العالم في مختلف مجالات  العلوم والتقنية.

وختاما نستطيع القول بأن استمرار عوامل طرد الاستثمارات الوطنية المشار إليها  سيؤدي إلى تعميق  استيطان رأس المال الوطني المهاجر في الدول التي حل فيها وستشهد اليمن المزيد من الخراب والتخلف الاقتصادي والاجتماعي.

أ.د. محمد علي قحطان 
23 سبتمبر  2024

مقالات الكاتب