دون سرادق عزاء أو نظرة أخيرة.... «كورونا» يحرم التونسيين من توديع أحبائهم

تونس: «الشرق الأوسط أونلاين»
في مقبرة الجلاز في تونس، يحمل أربعة رجال جثماناً موضوعاً في كيس بلاستيكي ويضعونه في الحفرة المخصصة له بعد أن يتلو عليه أقاربه الفاتحة، فيما يخرق رهبة المكان صوت لطفي يجهش بالبكاء على أخيه صالح الذي يوارى الثرى بعد وفاته متأثراً بفيروس كورونا.


ويقول لطفي بحرقة، «وجع الفراق مضاعف. توفي أخي ولم تتمكن ابنته وزوجته من توديعه وهذا مؤلم أكثر»، وفقاً لتقرير لوكالة الصحافة الفرنسية.

لم يُكفن شقيق لطفي، ولم يُغسّل كما تقضي الشريعة الإسلامية في بيته. لم يُصل عليه داخل المسجد كما جرت العادة. ولم يلتم الأهل والأصدقاء والجيران للتعزية كما هي التقاليد في تونس وسائر الدول العربية إجمالاً. إذ تطبق طواقم عمليات الدفن في تونس بروتوكولاً صارماً في عمليات نقل المتوفين بـ«كوفيد - 19» من المستشفيات إلى المقابر في إطار تدابير الوقاية من الوباء.

كان الجثمان نقل في سيارة إسعاف شقت طريقها وسط زحمة مرورية في شوارع العاصمة ولحق بها لطفي في سيارة.

ويقول لطفي الجلاصي (59 عاماً)، «لم يقبلوا حتى بالمرور (السيارة التي تنقل الجثمان) قرب منزله لتلقي العائلة عليه النظرة الأخيرة، ولو لنصف ساعة ومن بعيد».

ويضيف: «هذا غير مقبول... هذا صعب جداً علينا».

في بيت صالح الواقع في حي شعبي في تونس، لم ينصب سرادق العزاء. جلس رجل واحد أمام مدخل المنزل على كرسي أبيض، وكان في الإمكان سماع آيات قرآنية مسجلة ترتفع بصوت خافت.

مع تمرس الفرق الصحية في عمليات نقل الموتى ودفنهم، تم تخفيف التدابير المشددة التي كانت معتمدة سابقاً بالنسبة إلى المتوفين بالوباء. إذ صار يسمح لعدد محدد من أفراد عائلة الميت بإلقاء النظرة الأخيرة عليه والمشاركة في الدفن.

في ثلاجة الموتى في مستشفى شارل نيكول، أكبر مستشفيات العاصمة تونس، كان لطفي تقدم من جثمان شقيقه صالح (61 عاماً) لوداعه. واختلطت دموعه مع رائحة الموت ورائحة مادة التعقيم التي تخرق الكمامات الطبية الموضوعة على الوجوه.

ثم تراجع إلى الخلف بسرعة مردداً: «إلى متى إلهي سنظل على هذا الحال؟ يموت أخي ويمنعوننا من نقله إلى المسجد».

قبل زمن «كورونا»، كان الميت يُغسل قبل دفنه وتصلى عليه «صلاة الجنازة» داخل الجامع بحضور المعزين والعائلة، ثم يوارى الثرى، لكن لم تعد هذه القواعد تطبق على المتوفين بالوباء الذي حصد نحو ثمانية آلاف وفاة منذ مارس (آذار).

في المقبرة، يقول المشرف على فريق من البلدية، مهدي الدلاعي، يستعد لعملية الدفن «الشائكة»، لوكالة الصحافة الفرنسية، «نحاول التوفيق بين البروتوكول الصارم والقاسي والعائلات التي هي في وضع نفسي صعب».

ويضيف: «نحاول أن نخفف على أفراد العائلة، ونقول لهم إن الميت شهيد، والشهيد لا يغسل».

كانت دار الإفتاء حسمت جدلاً واسعاً قام في البلاد في أبريل (نيسان)، مؤكدة ضرورة الالتزام بنصائح الأطباء بشكل كامل، وأجازت دفن الميت من غير غسل.

ويتلو أقارب صالح الأربعة الموجودون في المكان، بينما الدموع تنهمر بغزارة من عيونهم، الفاتحة وصلاة الجنازة، فيما الجثمان في سيارة الإسعاف الموجهة صوب القبلة في الاتجاه الذي يسجى فيه عادة الميت أثناء الصلاة عليه.

ثم ينهمك فريق البلدية الذي وضع أفراده كمامات وارتدوا ألبسة طبية صفراء واقية، بإنزال الجثمان في القبر وردمه بالتراب.

 

ويقول الدلاعي، «في البداية، كنا أكثر صرامة مع العائلات، ولكن بمرور الوقت خففنا من القيود وأصبحنا نسمح بأداء صلاة الجنازة وبعدد محدود من الأشخاص وباحترام التباعد».

ويروي أن بعض العائلات تطلب من فريق الدفن أحياناً التقاط صور ومقاطع فيديو بالهاتف، ليتمكن كل من لم يسمح له بالحضور من المشاركة عن بعد في المأتم.

ومع وصول الموجة الثانية من الوباء إلى البلاد وارتفاع عدد الوفيات اليومية منذ نهاية الصيف الفائت، تواجه طواقم البلدية المتخصصة ضغطاً كبيراً ومتواصلاً.

ويشير الدلاعي إلى أن هناك 15 فرداً في فريقه في العاصمة تونس يعملون بالتناوب على مدار الساعة في دفن موتى «كوفيد».

ويقول «في بعض الأوقات نصل إلى 15 وفاة يومياً في العاصمة يجب دفنها، ولا نتمكن من دفن سوى تسعة أشخاص».

وخصصت مساحة معينة من مقبرة الجلاز تضم نحو ألفي قبر لدفن ضحايا «كوفيد». ويمكن رؤية تراب بعضها لا يزال مبللاً بالماء، بينما حفر أخرى جاهزة تنتظر الموتى.

ويقول محافظ المقبرة لطفي بن مراد، «في عشرة شهور، امتلأ المربع الأول وبدأنا نخصص مساحات إضافية».

في مكان آخر من المقبرة، تقف آية (16 عاماً) في لباس أسود مع أمها وإخوتها وتشغل آيات قرآنية على هاتفها، وقد جاءت لزيارة قبر والدها الذي توفي عن 58 عاماً بالفيروس قبل أربعة أشهر.

وتقول «الصورة الأخيرة التي أحتفظ بها له عندما كان في الأيام الأولى من المرض في البيت».

ثم تنحني لتضع حبات من القمح على قبر أبيها لتقتات منها العصافير. وتتابع: «لم نفتح العزاء ولم يأت أحد تقريباً» لتقديم المواساة. «كلهم فضلوا الاتصال بالهاتف».

وتضيف بينما تهم بمغادرة المكان: «ربما ننسى الوفاة ولكن من الصعب نسيان عدم توديعه... لوعة عدم توديعه بالنظرة الأخيرة أشد عذاباً».